سيريانديز ـ نجوى صليبه
في مجوعته الشّعرية "جعفرائيات الحبّ" الصّادرة عن دار "توتول للّباعة والنّشر والتّوزيع"، كتب الشّاعر جعفر أحمد حيدر (1957 ـ2025) إهداءً يفتح باب التّحليل والتّفكير والتّأويل على مصراعيه، إذ أهدى مجموعته "إلى كلّ لحظة مازال فيها زمن لاشتعال الحطب"، فاشتعال الحطب يجمع بين متناقضات كثيرة، هو رمز للدّفء والبرد، والحبّ والكره، والفقر والغنى، والبساطة والضّعف والقوة، والرّومانسية والجبروت، والشّبع والجوع، وهو أيضاً نقيض للعنوان "جعفرائيات الحبّ" إن أخذناه برمزيته للحرب والحقد، لكنّ كلّ هذه الأفكار تتنحى جانباً أمام الإهداء الآخر الذي كتبه:
أهدي الكتاب العاشرا للحبّ حرفاً أسرا
فلتقرأيني عاقلاً ولتقرأيني ثائرا
ولتحمليني ثورة نهراً، وبحراً هادئا
ولتمنحي آياته وحياً نادرا
ولتحضنيه لهفة كي لا أظلّ مهاجرا
فلا مكان إلّا للحبّ الذي يقول فيه:
مسّ ما /من خارج هذا الكون/ يجيء على شكل جنون أحياناً/ وقليلاً ما يأتي في شكل العقل/ جميلاً وعظيماً وحنون/ ويجيء على شكل الصّمت/ ويأتي أحياناً أخرى كالصّخب المجنون.
ويأتي الحبّ من دون استئذان أو شروط:
لا شرط لهذا الحبّ/ فإنّ الحبّ هو الشّرط اللازم والكافي للكون/ سواء في الأرض أو الأفلاك/ هو أعلى درجات الوعي/ وآخر درجات الفهم/ وأعلى درجات الإدراك.
يأتي وتصير لغة العشاق سيّدة المواقف:
يصير اللغو أوضح من حروف تدللها الفصاحة والتّمام
وغمغمة الحروف بكلّ حين يدندن في بشاشتها ابتسام
تمرجح في مدى الماضي حديثاً قديم جديده فيه السّلام
ويقلب حياة صاحبه رأساً على عقب:
القلب يسمى قلباً حين يقلّبه الحبّ/ على جمر العشق/ كما قال "البدوي" العاشق والمشتاق/ لكن حين يصير يقين الحبّ شكوكاً/ وتصير شكوك العشق يقيناً/ والشّوك جحيماً/ فـ الحبّ يصير سماءً/ تمطر تنهيدات حارقة الصّدر/ وهذا ديدن كلّ عاشق.
لذا ينصح الشّاعر كلّ عاشق بالهدوء، خوفاً من رميه بالخيانة والنّكران:
لا تصرخ!/ سيقولون بأنّك تنكر حالات الحبّ/ ألست ترى العشّاق/ وهم يحكون بهمس/ فشفاههم لا تتحرك/ والصّوت الخافت يخشى أن ينزلق/ على كلّ الآفاق.
فربّما يكون الوقت كفيل بكلّ شيء، وربّما لا:
الحبّ صهيل في وهج الوقت/ ورقّاص السّاعة لا يهدأ/ يملأ كلّ الأنحاء/ والوقت بحار لا شاطئ يعرفها إلّاه/ ولا شيء يحدّ مداها إلّاه/ كمياه تتدفق في أنهار الوحي/ وأحلام تتصارع في قطرات الماء.
وكما معظم الشّعراء، لحيدر فلسفته في الحبّ:
مثل صوفية تغازل قبّه/ عرف العاشق المدلّل ربه/ كلّ فردٍ بالحبّ يصبح عيداً/ أنتم العيد يا رفاق المحبّه.
ويقول:
يا عاشق الوحي إنّ الوحي تـأنيثا/ ما أجمل الشّعير توحيداً وتثليثا/ أنثّت حرفك حتّى صرت من عبق/ والحرف يخلق للعشّاق تأنيثا.
أمّا الجدلية الأبدية التي قيل فيها الكثير فهي العلاقة بين الحبّ والحريّة، وفيها يقول حيدر:
الحبّ سجين الحريّة/ تطلق عينيه سماوات الإبداع/ فيبدع للبشرية أحلام العشق الصّوفية.
وبكتابته عن الحبّ وللحبّ، يواجه الشّاعر من يروّجون للحرب ويحرّضون على القتل، ومع ذلك نجده يوجّه كلماته إلى سيدة، كما لو أنّه يدرك أنّ السّلام والأمان لن يكونا إلّا معها، أو أنْ لا أحد يمكنه فهمه سواها:
يا سيّدتي/ لا يمكنني أن أفهم/ كيف يقوم أديب ما/ يكتب عن وطن ما، عن حريّة وطن ما/ عن إنسان.. عن ورد.. عن عطر/ بالتّحريض على حرب لا تنشر إلّا رائحة الدّمع/ ورائحة الدّم/ ولا يقتل فيها إلّا الفقراء.
فالوطن لديه حبّ ولغة وحرف وحريّة:
وطني حريّتي حيث اخضرار الحرف/ يجري ويغني في سهول المفردات/ وطني حرفي/ الذي يمطر في كلّ زمان ومكان/ لغة الشّعر وأحلام الحياة/ لغتي حريّتي/ حيث زماني موعد للعشق/ في كلّ اللغات.
"على عيون مواسمي" قصيدة الخاتمة لهذه المجموعة، ويقول فيها جعفر أحمد حيدر:
جددت روحك، هات الحرف وانطلق/ تلك السماوات عطشى والقصيد نقي/ على عيون صباحي وردة الألق/ وفي المساءات عطر الورد والحبق.. إلى قوله: ما ظلّ منا سوى تنهيدة عبرت/ في ليل غربتنا، يا ليل لا تفق.