سيريانديز - خاص
في وقت تتسابق فيه الدول الخارجة من الأزمات نحو المؤسسات المالية الدولية طلبا للقروض تتخذ سوريا موقفا مغايرا، حيث أكدت مرارا على لسان مسؤوليها أنها لا تسعى إلى الاستدانة من الخارج، بما في ذلك من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، هذا القرار، الذي وصفه خبراء بأنه "جريء ومحفوف بالتحديات"، يعكس الرغبة في الحفاظ على السيادة الاقتصادية وتجنب التورط في ديون مشروطة في مرحلة إعادة الإعمار.
مقدرات وطنية… هل تكفي؟
تعتمد الحكومة السورية في توجهها الرافض للاستدانة على ما تمتلكه من ثروات طبيعية وبشرية ترى فيها ركيزة لبناء اقتصاد مستقل وتشمل هذه المقدرات احتياطيات نفطية مؤكدة تقدر بـ 2.5 مليار برميل واحتياطي فوسفات يبلغ 1.8 مليار طن مع الإشارة إلى أن سوريا كانت من أكبر منتجيه عالميا قبل الحرب إضافة إلى امتلاكها مساحة زراعية وغابات تقارب 6.5 ملايين هكتار أي نحو 32.8% من مساحة البلاد ناهيك عن خبرات صناعية متراكمة في مجالات النسيج والصناعات الغذائية وصناعة الأدوية.
لكن هذه الموارد، وفق خبراء اقتصاديين، لا تكفي وحدها لتغطية احتياجات إعادة الإعمار خاصة في ظل التحديات البنيوية التي تواجهها البلاد فالقطاع الزراعي على سبيل المثال يعاني من تدهور البنية التحتية ونقص التمويل، وتقدر منظمة الأغذية والزراعة (فاو) أن إعادة تأهيله تتطلب استثمارات قد تصل إلى 17.1 مليار دولار، أما الصناعات التحويلية بحسب الخبير الاقتصادي تمام ديبو رغم أهميتها في إحلال الواردات وزيادة الصادرات إلا أنها بحاجة إلى تحديث تقني واستثمارات جديدة إضافة إلى استقرار في الطاقة والتمويل لتستعيد قدرتها التنافسية.
ويشير ديبو في الوقت نفسه إلى أن الموقع الجغرافي لسوريا عند تقاطع طرق التجارة بين آسيا وأوروبا وبين الخليج وتركيا يمنحها ميزة لوجستية كبيرة يمكن أن تعزز من دورها كمركز إقليمي للتجارة والترانزيت شريطة توفير بيئة استثمارية مستقرة.
شروط النجاح دون قروض: معادلة معقدة
يجمع الخبراء على أن الاستغناء عن القروض ليس مستحيلا لكنه يتطلب تحقيق مجموعة من الشروط المعقدة والمتشابكة تبدأ من الداخل وتمتد إلى علاقات سوريا الاقتصادية الخارجية حيث يرى أستاذ الاقتصاد الدكتور محمد إبراهيم في تصريح لشبكة سيريانديز أن ترسيخ الأمن والاستقرار الشامل في مختلف المناطق السورية يأتي في مقدمة هذه الشروط لأنه بدون بيئة آمنة لا يمكن جذب رؤوس الأموال ولا يمكن ضمان استمرارية الإنتاج أو تنفيذ المشاريع الكبرى.
ويؤكد إبراهيم أن استغلال الموارد الوطنية المتاحة بكفاءة هو شرط محوري ويتطلب ذلك إدارة رشيدة للثروات الطبيعية وتفعيل القطاعات القادرة على توليد دخل سريع ومستدام مثل السياحة والطاقة والتحويلات الخارجية كي تشكل مصادر تمويل بديلة عن القروض بالتوازي مع توقيع شراكات اقتصادية استراتيجية تقوم على مبدأ التعاون بين القطاعين العام والخاص بما يتيح تعبئة الموارد المحلية وتحفيز الاستثمار الداخلي والخارجي إضافة إلى إصلاح النظام الضريبي بما يضمن إيرادات مستدامة دون إرهاق المواطن.
ويحذر إبراهيم من أن غياب السيطرة على بعض الموارد الحيوية مثل النفط والمياه والقمح يشكل عائقًا كبيرًا أمام تحقيق الاكتفاء الذاتي المالي، ويضع النموذج الاقتصادي السوري في مواجهة تحديات حقيقية.
الاستدانة المؤجلة: خيار قد يُفرض لاحقاً
رغم موقف الحكومة السورية الرافض حتى الآن على الأقل حسب التصريحات الحكومية لا يستبعد خبراء أن تضطر سوريا في مرحلة لاحقة إلى الاستدانة بشروط مدروسة إذا توفرت مؤسسات مالية قوية وثقة في الأسواق وعملة مستقرة، وفي هذا السياق يحذر الخبراء من أن يحول سوء إدارة ملف الدين هذه القروض إلى عبء طويل الأمد كما حدث في تجارب دول مجاورة مثل مصر وتونس ولبنان والعراق، التي استدانت دون أن تحسن إدارة ديونها، ما أدى إلى تراجع اقتصادي حاد.
هل ينجح النموذج السوري؟
وفي المحصلة تسير سوريا في مسار اقتصادي غير تقليدي رافضة الاستدانة من المؤسسات الدولية ومراهنة على مواردها الوطنية وشراكاتها الاستراتيجية إلا أن نجاح هذا النموذج يتطلب إصلاحات عميقة واستقرارا سياسيا واقتصاديا وإدارة ذكية للموارد وإلا فإن خيار الاستدانة قد يعود إلى الطاولة كضرورة لا مفر منها.