بقلم الاعلامي علاء ابراهيم
في كل مرة أسافر فيها ، يروق لي ان اضيع الوقت في
تخيل ما يليق بكل من البلدان التي ازورها ، انظر حولي في كل مكان فأقرر أن الرفاهية تليق بدبي و كذلك الوفرة.
بينما تترك لدي اسبانيا انطباعا عارما بالدفء و ايطاليا بالجمال الذي لاينتهي و دول لن أسميها لا أسميها بالقذارة
و لكن ماذا عن بلادنا ، ما الذي يليق بها؟
يخادعني السؤال و يشق علي ، افكر كثيراً فأذكر يومين.
الأول في ربيع عام ٢٠١٧ حين قررت الفصائل المسلحة في الوطن أن تشن هجومها الأكبر و الذي سيكون الأخير على دمشق و تتمكن خلال ساعات من ارتهان شرقي العاصمة و تخرق خط الدفاع في عدة مواضع و تبقى نقطتان على طول الخط صامدتين و يدور القتال بشراسة.
في ذلك اليوم على طرف العاصمة كان هناك حاجة لشنّ هجوم معاكس ، و كان هناك فتحة في جدار يجب أن تفتح و كانت هذه "الطلاقية" كما يسميها الجنود تتطلب أن يحطم الجدار بمطرقة ثقيلة تحت اعين قناصة مسلحي جبهة النصرة.
المهمة كانت انتحارية وتقارب الحماقة فمع أول ضربة مطرقة سيسقط حاملها ، دارت النقاشات بين الضباط بسرعة و عندما صدرت الأوامر و انطلق اول حاملي المطارق كان المصير واضحاً.
و بينما وقفنا بعيداً في ظل عربات مصفحة، كنت اتمنى يلتوي المنطق و قوانين الفيزياء و الحرب فيعود حامل المطرقة حياً ... و لكن و مع ضربة المطرقة الاولى صفرت الرصاصات و سقط الجندي الشاب، و دون لحظة تفكير كان اثنان يقفان مكانه و استمر التلويح بالمطارق و تآكل الجدار و معه انهمار الرصاص و سقوط الشباب.
تراكمت الجثامين في مشهد سريالي ، و لا أجرؤ حتى اليوم على قول العدد لانه لا يصدق.
و بعد ٣٥ دقيقة استمرت دهراً، فتحت الطلاقية و دخلت المجموعة الاولى و بدء الاشتباك وجها سقط اخرون و لكن الجدار هدم و معه الهجوم الشرس.
هذه قصة و الاخرى قبلها بسنوات خمس حين كنت في وزارة الخارجية بعد يوم من تفجير الامن القومي عام، وصلت الى المبنى الجميل في قلب دمشق لأجد الدبابات على مدخلها و نظرات الاستغراب من الجنود الذين كانوا يأمنون محيطه حول سبب اي قدوم اي شخص في هذه الظروف و الرصاص يئز فوق موقف السيارات و تسقط قذائف الهاون هنا و هناك , يومها في عام ٢٠١٢ أعتقد كثيرون ان الحرب على بعد ساعات من نهايتها بسقوط دمشق. أذكر بوضوح كيف دخلت المبنى بقلب مرتجف و وجه بلا لون لاحد صديقا في عمرنا مازال حتى اليوم في صفوف الدبلوماسية السورية منشغلا بترتيب البريد لتوزيعه على السفارات المعتمدة في دمشق.
قلت في قلبي هذا شخص مجنون , ربما فهم صديقي ما دار في خلدي فقال لي بكل بساطة "في أي يوم اخر تأخير البريد امر عادي اما اليوم فإيصاله ضروري"
أنهى ترتيب البريد و انطلق بسيارته الخاصة ليوزع الكتب و المراسلات الى السفارات ليقول لهم بوضوح ان الدولة لا تسقط و ان العمل مستمر.
في القصتين وهما كآلاف القصص التي يعرفها الكثير من السوريين خلال فترة الحرب ، تصرف الاشخاص بما اعتقدوه صحيحا و لم يفكروا بما سيحصلون عليه او يخسرونه بتصرفاتهم ، عملوا و هم يعرفون أن افعالهم ستمر دون مكافأة او حتى اعتراف بالفضل و تعاملوا مع الأمر كواجب لا نقاش في الحاجة إليه.
و في كلا الروايتين العبرة واحدة، هذه البلاد لا يليق بها العجز
درس يبدو ان الكثيرين من مسؤولي سورية اليوم ينسونه ، يستسهلون الظهور و مواجهة الناس و التسليم بالعجز و قلة الحيلة.
يتحدثون و كان الجنود الذين أقفوا هجوم الهجمات على العاصمو و فتحوا فتحة في جدار كلفتهم أرواح العشرات من رفاقهم ، و كأن الموظف الذي كان في أسفل السلم الاداري في الدبلوماسية السوري و الذي كان منطق الحفاظ على السلامة يقتضي منه أن يبقى في أمان منزله يومها، كأن كليهما الجندي و الموظف هما ليسا من نفس الدولة التي ينتمي اليها هؤلاء المسؤولون.
لا تليق العتمة بسورية و لا الجوع باهلها الكرام و لكن الثابت دون نقاش هو ان العجز لا يليق بها.
الصورة هي من أحد اكثر احياء العاصمة بؤسا و لكنها مفيدة للتذكير بأن العواصف تنتهي و تظهر الشمس بعد اشتداد الظلمة.