المهندس إياد الجراش
ثمة مشكلات كثيرة تعاني منها أغلب المحافظات السورية ابلغتها الأزمة واشتقاقاتها مبالغ بعيدة، وعلى رأسها ما نعايشه من مشكلة عمرانية كبرى ذات جذور قديمة ترسَّخت مع الزمن بفعل عوامل السياسة وتغيُّر أنماط الإنتاج وعلاقاته، والذي انعكس فيما بعد على طبيعة التجمعات العمرانية وأشكالها، وأدى بالتالي إلى مظاهر بيِّنة من الفوضى العمرانية على مساحة الجغرافيا السورية.
إن تمركز السكان في مكان ما هو نتاج انتقال العدد الفائض الذي تلفظه الأرض الزراعية إلى تجمعات حضرية تشكل جزءاً من مجتمعات أقدم وأوسع. وبالتالي فقد اتخذت هذه التجمعات طابعاً ينسجم مع البيئة الأصلية التي احتضنتها أحياناً، ولكنها في بعض الأحيان الأخرى لم تحقق الانسجام الكافي فانكمشت على نفسها ضمن هياكل اجتماعية ضيقة كالإثنية أو الدين أو العائلة أو غيرها كرد فعل جمعي طبيعي على المحيط الموسوم بالتوتر.
ومن هنا كان الأثر الأكبر للسمة الدينية والإثنية أحياناً على التجمعات العمرانية كحال كثير من الدول العربية الأخرى.
ويرجع الكثير من المشكلات العمرانية للمدينة السورية في أصلها إلى ترك العمران يأخذ مجراه دون تدخل أو تخطيط من قبل الدولة. فهي مسألة سباق بين القوى الاجتماعية الطبيعية التي توجه العمران في المجتمع (كالأعراق والدين والعائلة) وبين القوى الاجتماعية الموجِّهة التي يجب أن توجه العمران في المجتمع. وذلك أن كل تأخير في اتخاذ التخطيط العلمي أساساً للعمران في المدن معناه تعقيد الوضع أكثر وأكثر، مما يجعل مهمة التخطيط وتنفيذه أصعب وأكثر كلفة وينحو به مع الزمن منحى التعطل والاستحالة.
كما أن إهمال التخطيط الموجه أدى إلى تفاوت واضح في العدالة المكانية في المجتمع، فالفوضى التي خلقت هذه التجمعات أنتجت تمايزاً واضحاً في مستوى الخدمات بين المدن وبين قطاعات المدينة الواحدة، والذي انعكس بدوره على مستوى المعيشة وأسعار العقارات وكرس الفرز الطبقي المبني في أصله على أسس عصبية. وهذا ما أفضى في الإجمال إلى تناقض صريح بين ماهية هذه التشكيلات الاجتماعية والإطار الثقافي للدولة ككل.
ومما لا ريب فيه ان طبيعة التشكيلات العمرانية سالفة الذكر والتفاوت الواضح في العدالة المكانية في المجتمع كانا عاملين رئيسين في نشوب الأزمة في سوريا، حيث وصل الأمر ببعض التجمعات العمرانية إلى انغلاقها على نفسها وانفصالها عن المحيط وخلق جملة من القوى والأنشطة والعلاقات الاقتصادية الخاصة بها التي كرست عزلتها، وتحولت في بعض الأحيان إلى مناطق غير آمنة نسبياً بسبب غياب التركيز من قبل الإدارة المحلية وأجهزتها عليها.
ولم تجدِ الحلول التشريعية والتنظيمية المطروحة نفعاً في تنمية هذه التشكيلات وتطويرها بسبب المعالجات الجزئية والقاصرة التي قدمتها هذه الحلول من إجراءات تنظيمية وإدارية بل ساهمت أحياناً في تكريس الواقع الراهن في كثير من المناطق، كاعتبار المخالفات التنظيمية في المدن أحياناً واقعاً راهناً لا يمكن تصحيحه وبالتالي القبول به والإيغال في تكريسه.
ومع دخول السنة الثامنة للحرب على سوريا ودحر الإرهاب وداعميه وإعادة سيطرة الدولة على أراضيها؛ كان لا بد من إعادة النظر في كافة الأسباب والعوامل التي أنتجت هذه الحرب وأسست لها، وعلى رأسها المشكلة العمرانية في المدن السورية، حيث يتضح من خلال جملة المراسيم والقوانين والقرارات الأخيرة في هذا المضمار تبلور رؤية واضحة لدى الدولة وتوجه منظم باتجاه سوريا ما بعد الحرب من الناحية العمرانية والتنظيمية نحو تنمية حضرية مستدامة.
حيث بدأت الدولة في تطوير بنية تشريعية للمسألة التنظيمية في المدن والأرياف في سياق إعادة الإعمار، وهو توجه بخطى واثقة لتحويل التحديات إلى فرص كبرى. وذلك من خلال تطوير القوانين الناظمة للقطاع العقاري والمالي وقطاع الإسكان والإدارة المحلية، تحقيقاً لرؤية عمرانية متطورة تعمل على رأب الفجوات الديمغرافية وإصلاح الخلل الاجتماعي الذي كان سابقاً من خلال إنشاء مجتمعات عمرانية جديدة محكمة البنية تتسم بالتنوع وتنسجم مع الرؤية المستقبلية للنظام الاقتصادي للدولة بما يحقق مرونة خدمية أكبر، ويعيد صياغة علاقات الإنتاج لخلق أنماط اقتصادية محلية جديدة فعالة ومنتجة.
وهذا كله يدفع عجلة التنمية الشاملة قدماً إلى الأمام من خلال مجتمع متنوع توجهه الدولة ممثلة بالقوى السياسية والاقتصادية الوطنية ومن خلال اقتصاد متطور يقوم على بنية قوية أساسها العمران الجديد.