غلاء وتسوّق قليل
لا يختلف واقع أسواق الألبسة بين سوق وآخر، إذ تتشابه جميعاً في ارتفاع أسعار معروضاتها وقلة المتسوقين، ففي أثناء جولة لـ«تشرين» على بعض الأسواق المعروفة كالحمرا والصالحية والجسر الأبيض والفحامة وأخرى في مناطق شعبية كسوق قدسيا، تبين أن أغلب أسعار الألبسة وإن انخفضت بين سوق وآخر بنسبة ضئيلة فإنها تبقى مرتفعة قياساً بدخول المواطنين القليلة، وسط ملاحظة قيام أغلبية المحلات بالامتناع عن وضع التسعيرة، باستثناء بعض المحلات في الحمرا، التي حاولت استقطاب الزبائن على قلتهم بعروض على بضاعة قديمة غير جاذبة، كبيع مثلاً كنزة موديل قديم بـ3500 ليرة أو بنطلون جينز، أو قيام بعد الباعة بكتابة عبارة لافتة لعروض مغرية محاولة استقطاب الزبائن الذين يجدون كل هذه العروض كذباً على اللحى ولا تعنيهم في شيء لأنها خارج حساباتهم المادية، فأقل كنزة نسائية ذات نوعية جيدة بـ8 آلاف ليرة، بينما تبدأ أسعار الجاكيت النسائي والرجالي من 20 ألفاً وما فوق، والبنطالين من 6 آلاف وما فوق، والقميص بين 6 إلى 10 آلاف ليرة، بينما ألبسة الأطفال فحدث ولا حرج، إذ لا يقل سعر الفستان عن 15 ألف ليرة، والبنطال عن 7 آلاف ليرة والقميص بـ6 آلاف ليرة، وطبعاً هذا الحال لا يشمل أسعار الماركات التي يقصدها أهلها وناسها نظراً لارتفاع أسعارها على نحو جنوني، بينما ينتظر أصحاب الدخل المحدود موسم التخفيضات على الرغم من تأكيدهم أنها وهمية لأنها، كما يقولون، يبقى الرمد أحسن من العمى.
خارج حساباتنا
نحاول الوقوف على آراء المواطنين في ارتفاع أسعار الألبسة خاصة في ظل أعياد الميلاد ورأس السنة، فيجزم أغلب من التقيناهم على أسعارها المبالغ فيها وخاصة في ظل راتب محدود لا يكفي أحياناً شراء قطعة واحدة من الألبسة عند البحث عن الجودة، لذا على الأغلب تكون أغلبية المتسوقين متفرجين أكثر منهم مشترين وإن كانوا راغبين فعلاً بالشراء، لكن العين بصيرة واليد قصيرة كما أجمع جميع من التقيناهم، مع ملاحظة قلة العدد على خلاف فترات ما قبل الحرب إلا في أيام الشهر الأولى أو ضمن فترة التنزيلات، إذ كانت هذه الأسواق تعيش صخبا ًوحركة واضحة لدرجة كان المتسوقون لا يقتصرون على أهل البلد فقط وإنما من الدول المجاورة كلبنان مثلاً الذين كانوا يقصدونها لانخفاض أسعارها ونوعيتها الجيدة لكن هذا الحال تبدل، لتصبح هذه الأسواق عصية حتى على أهلها.
نصادف في سوق الحمرا أربعينية برفقة بناتها الثلاث واقفة أمام محل لبيع الألبسة النسائية يعرض البضاعة مع تسعيرتها، نسألها عن أسعار الألبسة المعروضة، لتؤكد أنها غير متناسبة مع دخل زوجها الذي يعمل في محل لبيع الخضر والفواكه، إذ تعتمد على خبرتها في انتقاء المناسب لاختيار النوعية الجيدة لتبقى وقتاً أطول، علماً أنها تعمد كل فترة إلى شراء قطعة لإحدى بناتها بغية كسوتهن على نحو جيد وخاصة ابنتها طالبة الجامعة، مشيرة أنها تحتاج قرابة 150 ألفاً تقريبا ًبين مصروف البيت وإيجار بعد خروجها من بيتها منذ بداية الأحداث في جوبر، لافتةً إلى أنه لولا الحوالات التي تصلها من أختها من ألمانيا لكان حال بيتها بالويل، إذ تعتمد عليها في كسوة أولادها وشراء ما يلزمهم بالحدود الدنيا طبعاً.
نشاهد فتاة أخرى تقف متفرجة أمام محلات الألبسة نسألها عن أسعار الألبسة، فتكتفي بالقول ساخرة: «مقبولة لمن راتبه فوق 50 ألفاً وليس لمن لايزال يتقاضى 20 ألفاً فقط»، في حين تضع سيدة أخرى، دخلت على خط الحديث الحق على التموين لعدم مقدرتهم على ضبط هذه المخالفات الكبيرة في سعر الألبسة حتى صارت من الكماليات وبات يتطلب الأمر قرضاً أو اتباع منطق الجمعيات، مؤكدة أنها لا تشتري ألبسة إلا في موسم الأعياد والتنزيلات.
في حين أكد الشاب الثلاثيني وهو متزوج ولديه ولدان «موظف» أنه لم يشتر ثياباً جديدة إلا ما ندر، ويعتمد على البالة في كسوة أولاده، وخاصة في ظل انخفاض جودة الجديد وارتفاع سعره.
المسوّغات ذاتها
يتكرر سيناريو المسوغات على ألسنة تجار الألبسة سواء صيفاً أو شتاءً، معتبرين أن أسعارها منطقية مقارنة بالتكاليف الكثيرة التي يتحملونها لحين إحضار البضاعة إلى المحلات وعرضها على الواجهات، ويرفض أحد الباعة التحدث عن أسباب غلاء أسعار الألبسة بحجة أنه مجرد عامل بأجر وليس صاحب محل ليرجعه بعد ذلك إلى المنتجين وباعة الجملة، وليس المفرق، وليضاف إلى ذلك إيجار المحل المرتفع الذي حتماً سيضاف إلى سعر الألبسة من أجل تغطية نفقاته، كما يرفض آخر التحدث عن ذلك بقوله: من لا يستطيع الشراء من هذه الأسواق، فعليه التوجه إلى الأسواق الشعبية، كالحميدية ويمكنه إيجاد أسعار أرخص تناسبه، ليشير آخرون إلى تأثر الأسعار بسعر الصرف الذي تسبب إضافة إلى عوامل أخرى كأجور النقل وارتفاع أسعار المستلزمات الأولية في غلاء هذه المنتجات التي تصل إلى المحلات بأسعار مرتفعة ولا يربحون كما يدعون سوى القليل.
نسأل أحد الباعة عن أسعار «الجاكيت» و«المانطو» وعن عدم وضع تسعيرة واضحة، ليرد الأسعار هنا موحدة لكونها ماركة معروفة، وتبدأ من 18 ألفاً لتصل إلى 25 ألفاً تقريباً، وزبائننا يعرفون ذلك تماماً.
بضاعة تركية على المكشوف
نلحظ عند رصد أسعار الألبسة في المحلات العادية والماركات التي تحلق أسعارها عالياً وبرغم ذلك تعلن عن تسعيرتها الأبهة بشكل واضح، أن البضاعة التركية معروضة على الرفوف جهاراً، مع أنه يمنع استيراد الألبسة، فكيف إذاً دخلت إلى الأسواق المحلية، وكيف يتجرأ الباعة على عرضها من دون خوف، خاصة أن تركيا كان لها دور كبير في تدمير البنية التحتية لصناعاتنا، وهنا يسوّغ أحد الباعة بأن هذه البضاعة لها روادها، ويفضلونها على المحلية التي أسعارها أغلى من التركية التي تعد أجود منها نوعية، وتالياً لو كانت ممنوعة لكانت الدوريات التموينية خالفتنا، لكن لم يمنعنا أحد من اقتناء هذه المنتجات حتى لو شفهياً، داعين المنتجين المحلين إلى تحسين منتجاتهم والعمل على بيعها بسعر أقل حتى تقبل المحلات على الشراء منها.
السوق يتحكم
ولا يختلف واقع الغلاء في أسواق دمشق الرئيسة عن أسواق المناطق الشعبية، فخلال جولة لـ»تشرين» في سوق مدينة قدسيا، كان من الملاحظ خلوّ السوق من الزبائن وإجماع البائعين على ثبات السعر وجمود السوق مع اختلاف بسيط في آراء بعضهم، إذ يؤكد أبو حسن بائع مفرق أنّ ما يحدث في السوق غير مفهوم، إذ إنّ بعض المواد قد ارتفع سعرها على عكس ما هو مفترض أن يحدث، فبعض تجار السوق يستغلون خوف نظرائهم من تجار الجملة من بيع أيّ قطعة ريثما ينتهي الارتباك الموجود في السوق، ويقومون باستغلال باعة المفرق الذين لديهم نقص في محلاتهم يريدون سدّه، والحجة أنّهم قد تسوقوا على السعر القديم والارتفاع يعود لارتفاع التكاليف وأجور «الوريش» العامل في الورشة أو المعمل، مشيراً إلى وجود تحكم بالأسعار في السوق وإلى اضطراره إلى تخفيض بعض الأسعار لجذب الزيون، مطالباً بالرقابة والتموين على تجار الجملة أو أصحاب الورش إذا ما أُريد ضبط الأمر ثمّ مساءلة بائعي المفرق.
«لأول السنة» جملة أجمع عليها أغلب بائعي المفرق برغم انخفاض رمزي أو شكلي لا يتعدى الـ200 ليرة في سوق الجملة حسب كرم بائع رجالي الذي قال: إنّ القطع اختلف سعرها بمقدار رمزي من 100 الى 200 ليرة وكصاحب محل لا أستطيع إيقاف أي عملية بيع مهما كان مربحها للاستمرار في عملي، أما دلبرين مستثمر لمحل نسائي فيقول إنّ الأشياء «الشغالة» في السوق لم ينزل سعرها، أما القطع «غير الماشية» فقد نزّل التاجر سعرها 100 أو 200 ليرة من سعرها، وتوقع أن تنزل الأسعار مع اختلاف موسم الملابس إذ إنّ المعامل والورشات تبدأ عمل الربيعي والصيفي مع بداية العام القادم.
جمود في السوق
عصام الحموي «بائع» وصف السوق بالجامد ليس من قبل الزبون فقط بل الباعة أيضاً، فالتاجر مازال «ماسك سعر» وأوقفنا كبائعي التسوق حتى نرى إلى أين تتجه الأمور، والتجار يعرفون الوضع والباعة لا يتسوقون.
أسامة ناصر الدين يعمل في صالة عرض لإحدى الماركات يصف الأمور بأنّ شيئاً لم يتغير والبضاعة تعدّ من الموسم القديم، ومنذ أسبوعين لاحظنا قلّة الحركة وجموداً عندنا ولدى أمثالنا في المهنة، وأشار إلى كتاب غرفة الصناعة الموجّه إلى رئاسة مجلس الوزراء المتضمن الجمود الذي أصاب الأسواق نتيجة انخفاض سعر الدولار بسرعة.
احتكار للبضائع
علاء بائع محل ملابس داخلية للجنسين يقول إن تبضعه من سوق الحريقة وهناك الأسعار لم تخفض كما أنّ هناك عملية احتكار للبضائع ونتلقى جواباً دائماً أن لا بضاعة لدينا وذلك مفهوم لأنّهم يريدون معرفة السوق إلى أين يتجه.
بدوره فراس صاحب محل ألبسة نسائي وابن سوق كما يعرف عن نفسه، يقول إن أسعار الألبسة لم تتغير بالمجمل ولكنه أحضر قبل يومين بعض القطع الجديدة «معاطف» ومنها ما انخفض سعره بحوالى 2000 ليرة من 13 ألفاً إلى 10500 ليرة، مؤكداً أنّ الأسعار حسب نظرته ستبدأ بالانخفاض الشهر القادم.
رند تبيع ملابس نسائية بيّنت أنّ الأسعار تقريباً انخفضت 500 ليرة للقطعة الواحدة على الأقل خاصة أنّ عمليات البيع قلّت، وترى -على عكس فراس- أنّ الأسعار سترتفع مع بداية الشهر الأول من العام القادم لأنّ الطلب سيزيد على البضائع وسيكسر الجمود.
لا علاقة لنا بتسعيرها
فلتان أسواق الألبسة وخاصة الشتوية وأسعارها الكاوية التي تسببت في خروجها من دائرة حسابات المستهلك وضعناها أمام وزير التجارة الداخلية وحماية المستهلك الدكتور عبد الله الغربي الذي أرجع المشكلة إلى حساب أسعار الخيوط عند الصناعيين وسعرها الاسترشادي الذي شرحه له الصناعيون، ليطالبهم بإعداد مذكرة حول هذا الأمر، بغية مناقشتها بها في حلب بعد انتهاء موسم الأعياد بداية العام، ليشدد عموماً على وجود مشكلة في حساب تكاليف المواد الأساسية، التي عدّها عند سؤال «تشرين» عن علاقة الوزارة بتسعيرها خارج نطاق وزارته، فالأمر مرهون في رأيه بالصناعيين أنفسهم، ويؤكد وجود مشكلة بين التجار والصناعيين وبين المستورد والمصنع، وهي مشكلة أزلية ولاسيما في ظل وجود خلاف بين غرفة تجارة وصناعة دمشق وغرفة صناعة حلب.
كسر حلقات الوساطة
ولفت الغربي إلى أن وزارة التجارة الداخلية تعمل على كسر حلقات الوساطة التجارية عبر فتح مولات لبيع الألبسة من خلال الشراء من الصناعيين مباشرة، وقد تم افتتاح مول الصالحية، وسيتم افتتاح مولات أخرى في باب توما وجرمانا مع الانتقال إلى المحافظات الأخرى، لافتاً في الوقت ذاته إلى العمل على تشديد الرقابة على محلات الألبسة من أجل ضبط أسعارها قدر الإمكان ومحاسبة المخالفين، علماً أن العقوبات المتضمنة في قانون حماية المستهلك حول عقوبة 25 ألفاً لا تكفي، لذا يعمل الآن على تعديلها، وقد أرسلت إلى اللجنة الاقتصادية للاطلاع عليها، ومن المتوقع الانتهاء منها بداية العام القادم.
وشدّد الغربي على أن أسعار الألبسة غير متناسبة حكماً مع دخل المواطن، فاليوم على حد قوله كيلو اللحمة غير متناسب مع راتب المواطن المحدود الذي كان يراهن حسب رأيه على انتصارات جيشنا عبر تحرير آبار النفط والغاز من أجل زيادة الرواتب وردم الفجوة بين الدخل المنخفض والنفقات الكثيرة، حيث يصبح بإمكانه شراء حاجاته أكثر ضمن راتبه.
تحكم التجار بالصناعيين
يرجع د.جمال السطل خبير في شؤون المستهلك السبب الحقيقي في ارتفاع أسعار الألبسة إلى التجار الذين يتحججون دائماً بالتكاليف العالية لمنتجاتهم، علماً أن التسعير لا يتم بطريقة صحيحة مع هيمنة التجار على الصناعيين إذ يضع كل تاجر التسعيرة التي تناسبه من دون حسيب أو رقيب، لدرجة أنهم يحددون للصناعي التسعيرة، باتفاق ضمني بين الطرفين، وهذا الأمر مسؤولية البلديات والمحافظة لكون الأمر يتم في ورش غير مرخصة ولا علاقة للدوريات التموينية بها، خاصة في ظل عددها الكبير ونقص كادر الرقابة التموينية، لذا تستطيع البلديات والمحافظة معرفة مكانهم والإبلاغ عنهم من أجل الحد من هذه المخالفات التي تجري بطريقة أن يطلب التاجر تسعير فستان معين بمبلغ معين وتنظيم فاتورة فيه، لذا الخلاص من هذا الواقع يكون بعدم خضوع الصناعي إلى أوامر التاجر واعتماد تسعير عشوائي يتناسب مع جيوب التجار وليس مصلحة الصناعي.
ولفت د.السطل إلى أن حل مشكلة غلاء الألبسة يكون في التدخل الإيجابي من قبل مؤسسة السورية للتجارة، عبر القيام بنفسها باستيراد الألبسة مباشرة من دون وسيط، فحينما تحصل منافسة على حد قوله تنخفض الأسعار حتماً ولا يتحكم في سوقها التجار فقط، وقد قامت السورية للتجارة بتجربة مهمة لابد من تكرارها في العديد من المناطق حينما أعلنت عن إنشاء مول الصالحية للألبسة والشراء من صناعيي حلب مباشرة بأسعار مقبولة، وهذه خطوة مهمة يفترض تطبيقها من أجل تخفيض الأسعار على نحو يناسب رواتب المواطنين التي لم تعد تكفي شراء جزء بسيط من حاجاته، ليشدد على أن المشكلة الحقيقية فعلاً تكمن في الرواتب القليلة التي حسبما صرح الكثير من المسؤولين أنه لا مجال لزيادتها لذا يفترض العمل على تخفيض أسعار جميع السلع وليس الألبسة فقط لضمان المواءمة بين حاجات المواطن وراتبه القليل.