بقلم"رشاد كامل
التنمية المحابية للفقراء أسطورة ، بنيت عليها العديد من ثروات الأغنياء في بلدان العالم الثالث، وأسست لكل مايحدث لنا من كوارث في البلدان التي اعتمدت مثل هذه التنمية الشعبوية اللغة .
وقف يقرأ لنا خطة مشروع إعادة الاعمار ، واكد لنا ان دراسته لتقاريرنا وتوضيبه للملف الأخير سيكون مستندا على ان كل خطط إعادة الاعمار ستكون محابية للفقراء، صمت جميع الخبراء، كونهم باللاوعي الاشتراكي المعشش فينا تعودوا على كلمة فقراء، لكني في هذه اللحظة بالذات صحوت من مللي مما أسمع ورفعت يدي مقاطعاً وقلت له، من قال أننا نوافق ان يكون إعادة الاعمار في سورية محابيا للفقراء؟
من طرح هذا الطرح؟...
اجابني فورا وكانه نبي: وهل تريده محابيا للاغنياء ؟!!! ...
جوابي كان صاعقاً وبداية لخلاف ونقاش لم ينته لليوم أجبته : لا،أريده محابيا لسورية ولكل السوريين ... والفرق بالرؤية بيننا كبير.
في العام 2014 وعلى شواطئ عدن، كنت أستطلع بعض المشاريع أنا وأحد القضاة المسؤولين عن ملف العدالة الانتقالية هناك وخاصة ملف الأراضي المتنازع عليها ، وذهلت من جمال الشاطئ في عدن وفقر أي استثمار أو إشغال حقيقي له . وشعر هو بما أفكر وقال لي : نحن في الجنوب لدينا شاطئ ممتد من محافظة المهرة المطل على بحر العرب مرورا بخليج عدن وصولا الى شاطئ محافظات لحج، وتعز والحديدة، وصولا محافظة الحجة المطلين على البحر الأحمر، ملايين الكليومترات المربعة ، لو فقط أحسنا استثمارها بمخطط تنظيمي ، ووزعنا كل قطعة من هذا التنظيم الجديد على كل يمني ، لجعلنا من كل يمني مالك لثروة يمكنه فيها أن يسامح، وان يبدأ بإعادة إعمار حياته ... وتابعت أنا معه الجملة وقلت له وإعادة إعمار ذكرياته أيضا ... فالمال والعمل تنتج ثقافة مختلفة عن الفقر والحاجة .
ولكن ما كتب على اليمن هو الحرب ، لا التنمية، مع الأسف .
لماذا الإصرار على أن نرسم سياستنا التنموية ضمن إطار مفاهيم الدعم ، والمساكن الشعبية ، وتأمين الحد الأدنى ، وغيرها من المصطلحات التي لم ننجز أي منها فعلاً .. فلا التنمية تمت، ولا الفقراء نقص عددهم، ولا هم سعداء ... لا بل أسسنا لمفهوم خطير في دور الدولة وهو الدعم ...
لماذا لم نؤسس مفهومنا التنموي على فكرة أهم وهي أن نجعل الشعب السوري شعب ثري ؟.
من قال ان أي سوري سيرفض أن يكون ثرياً ، وليس بالضرورة أن يكون ذو ثراء فاحش إنما لديه مايكفيه له ولأولاده من مال وعقار تتيحان له أن يعيش بكرامة وسعادة ، معه ما يكفيه ليدرس أولاده،ويطببهم، ويطبب نفسه ، ووهو واثق بالمستقبل الاقتصادي لبلده ، وضامن ما سيورثه لأولاده.
لماذا نتعامل مع موضوع التنمية على أنه مشاريع ضرورية انقاذية، ومع المواطن السوري على انه سينهار بدون دعم (إعاشة).. ماهذه النظرة الفوقية الأبوية من الدولة واقتصادييها والتي أسست لاقتصاد يتمحور حول الدور المركزي في إنجاز كل شيء وفي دعم كل شيء وفي أن الفقر قدر مكتوب علينا.
ومع الأسف عندما انتهجنا هذا النهج استنفذنا سريعا موارد الدولة، وعدنا الى محاباة الاستثمارات الداخلية والخارجية لتغطية مالا يمكن تغطيته وهو أن تكون داعما كدولة للأساسيات، ولهذا الكم المتزايد من الافواه... وعنما قررت الدولة الانسحاب من الدعم ، انهارت منظومة العلاقة المبنية على الاسترخاء عبر الدعم ، وفشلنا بالتحول الى اقتصاد السوق ... رغم اننا اطلقنا عليه صفة الاجتماعي (أي المحابي للفقراء عمليا).
فكرة السوق الاجتماعي طبقت بنجاح في الصين عبر نظريات الزعيم الصيني "دينغ شياو بينغ" الذي كانت أولى كلماته هي " أن تصبح غنيا هو أمر مجيد - To get rich is glorious" هذه الجملة مع المثل الصيني الذي اعتمده لتفسير خروجه عن تقاليد موروثة في التعامل مع التنمية والاقتصاد في الصين " لا يهم إن كان القط أبيض أمأسود المهم أن يصطاد الفأر"، أسست لمنهج يدعى "المنهج الدينغي".
فالزعيم دينغ عندما خطط لإعادة إعمار الصين أسس خطته على ثلاث مراحل ، الأولى أن يؤمّن الحد الأدنى من كل شيء للشعب الصيني وخلال عشر سنوات فقط، والثانية الانفتاح على العالم الخارجي وبناء الصين ومدتها عشرين سنة ، الثالثة أن يصبح دخل كل الصينيين مثل دخل البلاد المتوسطة وقاصدا البلاد الاوربية كون البلاد فاحشة الثراء هي البلاد النفطية .
والأهم أنه كان يريد استعادة مجد الصين ، فاستجابت له الصين.
ونظريته التنموية التي كانت محابية للصين ، كبلد عظيم ، وللصينيين جميعهم دون استثناء ، حققتأهدافه الثلاث ، فاليوم هناك 350 مليون صيني دخلهم يتجاوز 2000 دولار في الشهر أي عمليا في الصين هناك طبقة وسطى ذات دخل مقبول حسب التعريف الاقتصادي بعدد كل سكان أمريكا ... وهدف الصين المعلن أن يصل في العام 2050 ويكون جميع سكان الصين بهذا الدخل ... وسيصلون .
سيصلون لأنهم لم يخافوا من التنمية التي تركز على مفهوم "أن تكون ثريا هو أمر جيد ورائع" ، وخططوا لذلك وشاركوا كل الصينيين في رؤيتهم فانطلق شعب كامل يسعى لتحصيل الثروة ، الثروة عبر الصناعة والتجارة والاستفادة من الخبرات ، والعمال ، والطب ، والهندسة ، والرياضة .. الى وصلنا ان الصين اصبحت فعلا مصنع الكرة الأرضية .
دول كثيرة في آسيا مثل فيتنام وماليزيا وسنغافورة وأندونيسا لا تخاف ان تقول لشعبها ... نعم نريدكم أغنياء، ودورنا كدولة أن نهيئ لكم كل الفرص التشريعية والبيئية المناسبة لكم لتصنعوا ثرواتكم ....
بالتأكيد هناك أشخاص سيحصلون على المليارات، وهناك من سيحصل على الملايين، وهناك من سيحصل على مئات الالاف،وهناك من سيحصل على عشرات الالاف .... ولكن عدد من سيحتاج الدعم سيكون محدوداً ، ودعمهم الفعلي هو في إيجاد مخارج لهم لايجاد مهارات تتيح لهم بناء مداخيل جيدة لهم ولأولادهم ، لا عبر إعطائهم بونات رز وسكر.
التنمية المحابية لسورية ، تختلف ، تختلف من حيث الرؤية ، لأنها تنطلق من حاجات أساسية اليوم لسورية، أولها كيف سنعيد الإعمار، وثانيها كيف سنعيد سورية كقوة إقليمية، وثالثها كيف سنجعل من الشعب السوري شعباً سعيداً .
فالتخطيط التنموي، نعم يجب ان ينطلق من الحقائق، ومن الواقع، ولكن هذا لايعني ان نكبّل أهدافه بالحدود الضيقة فقط لسد الحاجات الأساسية عبر معونات قد تتوفر وقد لا تتوفر وأساسا لاتسد حاجات .
يجب ان نستبدل كلمة محاباة ودعم بكلمات مثل توفير البيئة التشريعية والتمكينية،وتأمين الموارد اللازمة، والفرق كبير .
لماذا إذًا الإصرارعلى مفاهيم الدعم ، ومحاباة الفقراء في سورية ....
لأن العمل وفق مفاهيم توفير البيئة التشريعية والتمكينية، وتأمين الموارد اللازمة، يحتاج الى دولة ذات مستوى ذكاء عالي، وخبرات حقيقية، وفاعلية، وشفافية، عالية جداً . ومن هذا المنطلق نستطيع أن نقدر لماذا تمسّك الكثيرون من مشّرعينا الاقتصاديين باقتصاد الدعم ، لا حباً بالفقراء بل لمعرفتهم لإمكاناتهم وإمكانات من يخدمونهم المتواضعة في الحكم وفي التخطيط وفي التنفيذ أيضاً، ولولعهم بقيادة المحتاجين.
فالمحتاج لا تهمه النوعية ، فأي شيء تعطيه إياه يجب ان يكون مقبولاً، بيته متواضع التنفيذ، حارته متواضعة التنفيذ، خدماته متواضعة التنفيذ، مستشفياته، مدارسه، جامعاته، حتى رغيف خبزه متواضع التنفيذ ومن هنا ساهمت التنمية التي سميناها محابية للفقراء في تدمير التنفيذ النوعي ، وأغرقتنا في منزلق سلبي، لا المواطن راضٍ والحكومة كبلت بأخطائها....
دول أفقر خرجت من فقرها ، ودول مرت بكوارث، خرجت مما ألمّ بها ، دول بدون موارد أصبحت منارة للعالم، والسوريون يستحقون اليوم فقط مخططين وحكومات تليق بهم .
تحوّل الدولة الى ناظم (Regulator) يسعى الى فرش طريق الخطط التنموية لاستعادة سورية بالتشريعات المناسبة، والموارد المناسبة ، بشفافية وتحمّل للمسؤولية ، سيؤسس لعقد اجتماعي جديد بين السوريين ، فهم سيتخلصون من فكرة الدولة الراعية ، الى الدولة الشريك ، وسيتحولون من رعية الى شركاء في البناء ....
السوري لا يريد إعاشة ولا دعم .... دعوه يعمل .... دعوه يمرّ .