كتب: رشاد كامل
بعد تسع سنوات من الحرب وملايين السوريين خارج سورية، وربما الى الأبد، لابد من ان ننتبه إلى التحول التدريجي الذي ستمر به سورية من بلد الى ضيعة..
نعم، ربما المقدمة صادمة ولكنه ما بدأ يحصل فعلاً، عندما يغادر طفل او طفلة سورية عام ٢٠١٢، وكانت أعمارهم لا تتجاوز التسع سنوات فهم اليوم أصبحوا بعمر الشباب، هم مغربون ما بين الخليج واوروبا وتركيا، وألمانيا وأمريكا، وكندا، وبالتأكيد لا اتحدث هنا عن المخيمات ومن فيها، فالدراويش والمساكين من السوريين لهم معادلة ثانية..
إذاً، نعود الى ملايين السوريين والسوريات ممن عاشوا جغرافيا ببلاد مختلفة ولغات مختلفة لثمان سنين الى الان وعداد اغترابهم اظنه سيستمر ... وربما الى الأبد.
معظمهم أصبح لا يعرف العربية جيدا، ربما يتحدث بها، لكن قراءة وكتابة سلامتكم بالحدود الدنيا... معظمهم لا يعرف وطنه الأم سورية الا من أحاديث الاهل وذكرياتهم،
معظمهم يعرف سورية من الجالية السورية التي يصطدمون بها في مطاعم واحتفالات يُجَرون اليها مع أهاليهم. وتحولت لديهم سورية من بلد الى حالة، ينقلها لهم اهلهم، اصدقاء اهاليهم ...
شاورما من هنا، ذكريات سيرانه من هناك، بوظة عربية، صفيحة، طقس جميل، فواكه لها طعم، اساطير عن سعادة سابقة عبر تلاحم الأهل والمجتمعات، واحترام الآباء والاجداد، ولا تخلوا القصص من قصص أموال تم خسارتها نتيجة الحرب، معامل نهبت ودمرت، دكان طار بالقصف، ارض تم انتهاكها، بيوت هدمت او تم محوها...قصص سورية أصبحت عادية مع الأسف، وتتحول كل هذه الأشياء الجميلة والبائسة عند هؤلاء الشباب واليافعين المغتربين ... الى قصة سورية.
ومع خفوت غضب الأهل من الاغتراب، تدريجياً تتحول سورية من وطن الى ضيعة
فالدول التي انتقلوا اليها أصبحت المدينة، والمدنية.
....
معظم السوريين المغتربين بعد تسع او ثمان سنين من الاغتراب استقروا الان في بلادهم الجديدة، ويشعرون الآن أكثر من أي وقت مضى على الأزمة السورية أنهم في الغالب محسودون ممن بقي في سورية من إخوانهم، والأقرباء.
معظم السوريين المغتربين اولادهم اتقنوا واعتادوا الحياة في بلادهم الجديدة، وأبدع كثير منهم علمياً وعملياً.
قسم لا بأس به من السوريين المغتربين حصل على إقامة أو جنسية البلد المضيف، أو في طريقه للحصول عليها.
اشتروا سيارات،
وربما اشترى بيتاً،
وفتح عملاً،
خمس سنوات اخرى من الاغتراب أظنها كافية لتنهي اي فكرة للعودة والاستقرار في سورية لمن بقي تراوده مثل هذه الفكرة. لكنها لن تنهي الرغبة في العودة للسياحة بالنسبة لجيل كامل من السوريين الشباب، ورغبة التقاعد لأهاليهم في الوطن.
وستتحول سورية الى محطة للذكريات ... معظمها جميل واسطوري ... مثل أي ضيعة لمن تركها للمدنية.
السوريون المغتربون حكماً سيعاملون سورية معاملة المغترب عن ضيعته، يحلمون بقضاء اجازة فيها لا أكثر، كما فعل من اغترب للأمريكيتين قبلهم منذ 120 عاما مضت، ولكم في أدب المهجر الذي درسناه جميعاً دليل لما سيزخر به أدب المهجر بين 2030 و2040، وبعده سيختفي، مع اختفاء جيل يحن الى ضيعته.
المشكلة أن المغتربين يريدون تجميد بلادهم في لحظة زمنية معينة، فالمغتربون عن حب يريدون الاحتفاظ بها دونما اي تغيير، بكل ما فيها من أشياء صحيحة وجميلة، ومما تحمل من الأخطاء التي أصبحوا يرونها جزء من ثقافة بلادهم.
فجمال أي ضيعة هو باحتفاظها بالذكريات لا الحداثة.
عندما تسافر الى الضيعة، تسافر لتشم روائح مختلفة، روائح الحيوانات من بقر وغنم ودجاج، الأرض المسمدة، خبز التنور، ريحة ولاد عمك المجبولة بالأرض والحصاد، بدك تشم ورد الربيع، واكيد لما بيطلع الموسم بدك تتمتع بالطعم الخاص للخضرة والفاكهة الطازجة التي تم قطافها من "على أمها"... وبالغالب لا تفتقد شيء من المدينة، ربما الانترنت فقط ... والتي قد تكون ايضا متوفرة.
بالضيعة نزور الاقرباء، أقرباؤنا من نسيهم الزمن بالضيعة، دراويش طيبوا القلب، لم تلوثهم هموم الحضارة، ولا فوائدها.
تتمشى في زواريب الضيعة وتسلم على "ختيار"من هنا و"ختيارة" من هناك ويسألونك عن أهلك، وبالتأكيد ستزور جدتك المريضة وتكسب رضاها، وتدس في يدها شوية مصاري لتصرف وتتبحتر، و"بتدعيلك"، تدعوا لك من قلبها كمان، وانت ستشعر أنك جبرت بعدك عنها، ويسر قلبك.
...
لما الاستغراب
الم تتركوا ضيعكم سابقاً واستقريتم في المدن؟!!! ...
كنت أحسد أصدقائي من كان عندهم ميزة العودة الى الضيعة،
الزيت من الضيعة، الجبنة من الضيعة، الزيتون من الضيعة، المونة من الضيعة.... حتى الهواء النظيف من الضيعة.
يدعونك الى ضيعهم، ويروجون لها كتجربة عودة من الحداثة الى زمان الاصالة.
وعندما يبنون بيتاً في الضيعة، يبنون بيت الضيعة، بيت بسيط متواضع، ويفرشونه بالغالب من فرش بيت المدينة القديم والبراد القديم والغاز القديم ... كل شي كان مستعمل ببيت الضيعة...
كان في الغالب مكب ذكريات... بيت مؤقت.
...
اليوم كل سورية صارت ضيعة بالنسبة لمن استقر من تسع سنوات خارجها، وستتسع الفجوة، وسيتعمق مفهوم "البلد الضيعة"، يريدون سورية "ثابتة بالزمن حتى بأزماتها" أزماتها أصبحت فلكلوراً... أي نعم.
عندما يحلمون بزيارة سورية الضيعة يريدون التأكد من وجود ذكرياتهم "نفس المناطق، نفس التماشي، نفس الروائح، نفس نداءات الباعة، نفس العشوائية، ولك حتى الفساد صار جزء من فلكلور ضيعتنا الكبيرة، ولن أستغرب أبداً من منظر مغترب سوري وهو يدس خمسة الاف ليرة بيد جمركجي بالمطار أو شرطي سير وعيون المغترب مبتسمه تراقب ذهول ابنه أو ابنته الذين يشاهدون لأول مرة بحياتهم ظاهرة "الاكرامية" الاسطورة، ويتابع الأب طريقه وهو يتحدث عن هذا الفلكلور السوري، الأولاد مذهولون من الحالة وراح يتذكروها ويذكروها طول العمر "كنهفة"، "على اساس هيك عنا ببلادنا ... الضيعة"، ففي الضيعة كل شي بيصير.
استقبال الاهل المبالغ فيه بالمطار سيصبح حالة فلكلورية، وغالبا ما سيصوره المغترب الأب أو الأم، ليعرضوه على الأصدقاء بسهراتهم فيما بعد بالسويد او كندا، او المانيا ويشتاقوا لهيك ضجيج جميل ....
نحول مائة دولار لأخ مريض، او بنت اخت تخرجت من الجامعة، نسمع "نق" الاهل، يا اخي اشتري بيت عنا، وغالبا راح نشتري، ونعامله نفس معاملة بيت الضيعة، مخزن ذكريات.
نحن نحول بلادنا لضيعة
وتدريجياً ستتحول سورية سياحيا وستعتمد على سياحة استقطاب اولاد البلد العائدين...للضيعة..
وابتداءً من المطار ستبدأ الاستعراضات الفلكلورية، فمن لحظة خروجك من باب الطائرة سيستقبلك بياع تمر هندي بطربوش، و بعد التختيم وانتظار الحقائب ربما يسلونك واولادك بعرباية فول نابت او ترمس، عرباية تماري كعك، لزوم الضيافة والاستقبال، وخود على تصوير، وغالباً ما ستتحدث انت وعائلتك عن هذا الاستقبال طوال فترة زيارتك، وعودتك...
ربما يلبسوك اطواق الياسمين عند دخولك وخروجك من المطار والمنافذ الحدودية، انطلاقا من أننا بلد الياسمين... هذا وليس بالضرورة أن يكون الياسمين سوري أساساً هو استيراد صيني، كون ما عاد عنا ياسمين بكميات تكفي كل هالمغتربين المصطافين، لكن لا يهم.. المهم الفكرة..
واكاد أجزم أنه هناك سيكون عراضة شامية كل ساعة تعمل عرض فني استعراضي بقلب المطار وبعض المنافذ الحدودية البرية مع رقصة سيف وترس كمان، وذلك لزوم إيجاد حالة فنية جميلة ليتصور معها القادمون والمغادرون، لتكتمل ذكرياتهم. ...
ومع انعدام مداخيل اقتصادية أفضل مما نحصله من هذا النوع من السياحة، يتحول الحفاظ على الضيعة يلي اسمها سورية، اهم من بناء بلد.
لما الاستغراب؟
سبقنا لبنان، وكوبا الى ذلك، ونحن على الطريق خطوة خطوة.
لما الاستغراب؟
اسالوا من ترك ضيعته واستقر مثلا بالشام
عمروا بيوت وقصور في مناطق المالكي ويعفور و غيرها وتركوا ضيعتهم ...ضيعة ولليوم
...
يا احبائي
نفقد سورية كبلد ونحوله لضيعة، عندما لا نعالج ملف ملايين استقروا خارجها،
لابد من معالجة الملف بخطط تنموية شاملة، تأخذ بعين الاعتبار ملف من غادر، وآليات استقطاب عودته كمواطن، لا كسائح،
عودته كمستثمر لا كمتقاعد يريد أن يرتاح في الضيعة.
والتنمية مرتبطة بلفات أخرى ملفات المصالحة والصلح،
والأهم ملف سيادة القانون.
...
لا نريد سورية ضيعة نعود اليها
نريدها كما أردناها دوماً
سيدة، نفخر بها وبأهلها
...
الاستمرار بالمكابرة في اهمال هذا الملف، سوف يجرفنا ابعد وابعد عن امكانية استرجاع سورية السيدة، سورية الوطن الذي نستثمر فيه وبمستقبله لنا ولأولادنا ....
هو تحد، إن لم نواجهه اليوم، فأحسن السيناريوهات هو ما اطرحه، وهو أكثر السيناريوهات تفاؤلا أن نتحول لحالة الضيعة، بلد عطلات للمغتربين..
...
اي نعم
رشاد كامل