كتب: مجد عبيسي
ظهيرة أمس، وفي ساعة القيظ تحديداً، كنت أتسكع على الرصيف الشرقي لبناء أبيض فاره في منطقة كفرسوسة، وقفت لدقائق أمام بوابته العريضة أتأمل.. ورفعت يمناي فوق عيني لأدرأ وهج الشمس متأملاً جمال البناء وضخامته ومساحاته المترامية كالقصر، وفجأة، لمحت رجلاً يشير لي من بعيد بأن أدخل..!!
تلفتت يمنة ويسرة لأتأكد بأني المقصود، وسميت بالله ودخلت.. كان رجلاً خمسينياً أشيباً، ضعيف النظر، أخذ بيدي وأنزلني عدة أقبية دون أن ينبس ببنت شفة.. سألته: إلى أين يا عم؟.. أنا أعتذر، فلم أقصد أن أقف وأتأمل.. و.. قاطعني قائلاً: لمَ كنت واقفاً بالخارج؟!، انتظرتك لأكثر من ربع ساعة، فملفات كثيرة تنتظرنا للإتلاف..
حاولت أن أوضح له أنه هناك سوء تفاهم، ولكن يبدو أن سمعه ثقيل، أو أنه اعتاد أن لا يسمع.. ولا يرى!! ناولني عدة مصنفات مغبرة، ومفرمة للإتلاف.. أمسكت لأقراً.. "دراسات التنمية المحلية للمناطق النائية.. حلول رفع الناتج القومي لعام 2020.. قوانين المنافسة وحماية المستهلك ومنع الاحتكار.. آليات الإصلاح وكشف الفساد.. خطط الأتمتة الشاملة.. طلبات استثمارات الطاقات المتجددة.. دراسات تمكين السلطة الرابعة.. ملف النهوض بالمصانع الحكومية.. إلخ !! سألته: يا عم..
إن كانت جميع هذه القضايا الحيوية للإتلاف، ما هي الملفات ذات الأولوية التي يتم العمل عليها؟!.. أومأ برأسه إلى زاوية مظلمة، دون أن يرفع بصره عن المفرمة، نظرت لأشاهد ملف لامع بعنوان: البرنامج الوطني للتعايش مع الطبيعة !!
ما أغربه من عنوان !! توجهت له بعد أن انتظرت مطولاً خروج الرجل من الغرفة، وفتحته لأقرأ: مدة التنفيذ: 10 سنوات المعنيين بالتنفيذ: الجميع تصفحت سريعاً لأقرأ أهداف البرنامج القريبة: القدرة على تحمل أقسى درجات الحرارة والبرودة، القدرة على العيش لأحقاب دون حوامل طاقة، القدرة على كبح جماح النفس عن الشهوات والملذات المؤذية كاللحوم والحلويات وما شابهها من مظاهر الترف.. اعتياد العين على الرؤية في الظلام، تدريب الكائنات على السير لمسافات طويلة، التدريب على حسن التدبير والتقشف بالصرمـ... بالإجبار.. واستخدام جميع الإمكانات المتاحة.. وقلبت سريعاً في الملف لألمح في الأهداف البعيدة: صناعة الإنسان الخارق !!
لم أستطع أن أقرأ أكثر، إذ داهمني الرجل من بعيد وهو يرعد ويزبد، وبيده إبريق متة ساخن، ركض وتشركل، فسكبه -الحيوان- علي.. فصرخت وأنا أقول له حار.. حار.. حار.. فنظر لي الشاب وهو يضحك، الحمد لله على السلامة، أعتذر عن الحرارة، ولكن هذه القارورة كانت في جو المحرس، أخذتها سريعاً حين رأيتك أغمي عليك عند البوابة..
قلت له بارتياب: الله يسلمك.. شكرا.. شكرا وهرعت من أمام المبنى، لا ألوي على شيء، ولا أروم في لحظتي تلك.. إلا ظلاً.