كتب حسام حسن- خاص سيريانديز
في منتصف التسعينيات ، بين عامي 1985 و 1990 ، لمع نجم الإذاعات على الموجات FM، ذات الصوت المجسم ، والنقي ، وأتذكر أيامها أنني سارعت لاقتناء جهاز راديو جديد يملك تلك التقنية ، ولم يكن يكاد يفارقني .
رغم ذلك ، كانت الصحف الورقية ، هي مصدر المعلومات الموثوقة الأول ، وباستثناء الأصفر منها ، كانت مصدرا قابلا للتوثيق اليدوي ، وقلما تحمل خبرا كاذبا أو ملفقا ، وإن تبين كذب خبر بثته ، تسارع في وقت لاحق لنشر تصحيحه ، حرصا على سمعتها ، ومكانتها لدى الجمهور .
كان حالي ، حال الكثيرين حول العالم ، بلا شك .
في بداية العشر الأخير من نهاية القرن الماضي ، توهجت القنوات الفضائية ، وبدأت تتكاثر كالفطر ، وبهر الشكل والمضمون ، عموم المتلقين .
كل حسب اهتماماته ، فرز قائمة القنوات التي يتابعها ، وتشارك أغلب الجمهور ، القنوات الإخبارية ، كونها كانت " تقليعة جديدة " ، بهامش " حرية " غير مسبوق .
على مدى 20 سنة ، احتفظت هذه الفضائيات ، بقصب السبق ، وقد أزاحت الراديو نهائيا من القائمة ، أو وضعته في ذيلها ، وتربعت على رأس قائمة وسائل الإعلام المتابعة في كل مكان .
وبالرغم من لجوئها إلى تحوير الأخبار لتخدم سياسة معينة ، وعدم اهتمامها بالمصداقية الصرفة ، بل وتوجه كثير منها نحو التحريف ، وقول ما لم يُقل ، ظلت تشكل المصدر الأول للأخبار لدى كثير من المتلقين .
كانت الصحف الورقية ، لا تزال ذات قيمة ، وإن تضاءلت أهميتها بالتدريج ، مع دخول غوغل وأخواتها ، والمواقع الإلكترونية ، على الخط .
حتى أمد معين ، استمر الحال على ما هو عليه ، إلى أن انطلقت وسائل التواصل الاجتماعي .
وحش انفلت من عقاله ، غادر المارد القمقم ، وخاض فيه مع الخائضين ، كل أنواع المتلقين ، وتحولوا إلى ناشرين ، واختلط حابل الأمور بنابلها ، حتى لم يعد قانون أو جهة تكاد تسيطر على الوضع .
ليس مهما أن تكون أكاديميا في مجال الإعلام ، وليس مهما أن لك باعا وخبرة ، ستفتتح موقعا على السوشال ميديا ، ثم تصبح ممن يوجهون الرأي ، ولو كنت أحمق هبنقة ، أو بائع فجل في سوق المدينة .
بدا أن وسائل التواصل هي من تتحكم بالوضع ، ومهما حاول الإعلام المرئي تسجيل النقاط ، بحقها ، كانت الأسبق ، وبكل سهولة ، توثق الفيديو مثلا ، وترميه في يد العامة ، وتحول التافه إلى رأي عام ، دون ضابط أو حسيب او رقيب .
يتناقل العامة خبر وسيلة التواصل الاجتماعي ، مقطوع السند ، ويتيم المصدر ، ويحوله الجمهور إلى خبر حقيقي ، ناقلا إياه من مرتبة الرأي أو الشائعة ، إلى مرتبة الحقيقة المطلقة .
وبالرغم من فظاعة الحروب ، في العقدين الأخيرين ، غير أن وسائل التواصل الاجتماعي ، استطاعت أحيانا أن تنصر ظالما على مظلوم ، أو تقلب الحق باطلا ، أو الباطل حقا .
تراجع دور وسائل الإعلام المرئية قليلا ، وباتت الفجوة في رأس القائمة بينه وبين وسائل التواصل الاجتماعي محدودة جدا ، وطغى أحدهما على الآخر ، تبعا لنوع الخبر ، والقدرة على نشره ، بأسرع وقت ، ولطالما نجحت وسائل التواصل في هذا التحدي .
ومع انتشار وباء كورونا في العالم ، بدأ وميض الإعلام التقليدي ، ينبثق من جديد ، بتواتر بطيء بداية ، ثم بتسارع ، يشي بأن المصداقية التي تتمتع بها الصحف والمجلات وشبكات التلفزة ، والراديو ، تتجه نحو استعادة جمهورها ، لأنه حين احتاج معلومات صادقة ، وجدها هنا ، لا في وسائل التواصل الاجتماعي .
غصت وسائل التواصل الاجتماعي بسيل غير محدود من " المعلومات " الخاطئة ، والمتناقضة ، والمتضاربة ، والشائعات ، بالفعل ، وبثت الهلع مضاعفا ، ونشرت المرض وعلاج المرض ، كذبا وتسابقا نحو حصد مزيد من المتابعين ، بل وحقق البعض مكاسب شخصية وتجارية ، باستخدام وسائل التواصل الاجتماعي ، على حساب الآلام التي سببها الوباء الذي يضرب البشرية ..
انشر أي خبر ، لفق أي فيديو ، اجتزئ ، ركب صورة على صورة ، اجعل الفيروس ، مسلما أو مسيحيا ، أو ابن ِ له صومعة على قمة جبال الهيمالايا ، ستجد تقنيات الصوت والصورة ، التي تجعل ما يراه المرء حقيقة .
الطامة الكبرى ، أن المتلقي ينخدع بسهولة ، وحين يكتشف الخدعة ، يشتم ويسب ، ثم يعود فيصدق كذبة جديدة .
هذا عموما .. ولكن ، ثمة مواقع تواصل اجتماعي ، مهمة ، على محدوديتها ، اكتسبت ثقة المتلقي ، وبهذه المواقع الرزينة ، ستبقى أهمية السوشال ميديا النظيفة ، كأحد حوامل الإعلام الرصين المهني ، وبالتالي ستزدهر مهنة الإعلامي المحترف من جديد !
(كتب حسام حسن- مدير أخباء قناة سما الفضائية)