د. عبد اللطيف عمران
تابعت الملايينُ من شعوب الأرض بلهفة المشاهدَ الأخيرة لحوار القرن الدبلوماسي، بعد أن بدأ هذا القرن دامياً بأحداث أيلول 2001 وما نتج عنها. فشكّل الاتفاق النووي منعطفاً هاماً ومتميّزاً في العلاقات الدولية في العقد الثاني من هذا القرن، ولاسيّما أنه أُنجز في معمعان الحروب والفتن والدم والنار والدمار. وكان الاتفاق في عناوينه العديدة انتصاراً للدبلوماسية على الصراع من جهة، وانتصاراً أيضاً للسيادة وحقوق الشعب في طموحاته العلميّة والسلميّة من جهة ثانية.
وترقبّت هذه الملايين ردود الأفعال الإقليمية والدوليّة على الاتفاق الذي رأت فيها أغلبُ شعوب الأرض على المستويين الشعبي والرسمي فاتحة تفاؤلٍ وثقة وأمل بين الشعوب والدول والحكومات تسهم في إنهاء الصراع والتوتّر واللجوء إلى حل الخلافات بالعسكرة والعنف والتهديد والعقوبات… باستثناء نظامين سارعا في التعبير عن القلق والامتعاض والاستنكار، فكانا شريكين شاذّين في ذلك عن الجموع الغفيرة بإعرابهما عن الخوف الذي اعتراهما جرّاء انتصار الدبلوماسية والسياسة على العسكرة والعنف.
فقد بادر الكيان الصهيوني إلى تأكيد مواقفه السابقة من السياسة العامة للجمهورية الإسلامية الإيرانية بما في ذلك الحق في الاستخدام السلمي للطاقة النووية، انطلاقاً من رسوخ عداء الجمهورية الإسلامية للمشروع الصهيوني العدواني التوسعي. ومن الطبيعي أن يقلق هذا الكيان، فيبادر إلى ما أعلنه طموحاً في استمرار استنزاف الغرب بالمعونات والدعم والتأييد من منطلق زيادة حصصه في هذا الاستنزاف مادياً ومعنوياً.
لكن التساؤل هو لماذا احتلّ نظام آل سعود المرتبة الثانية في التعبير عن هذا القلق والتقى في مشتركات عديدة مع الكيان الصهيوني في الموقف من هذا الاتفاق، وفي كثير غيره، بما لم يعد خافياً على أيّ متتبع؟
في الواقع، كان موقف نظام آل سعود فاضحاً، ومكلّلاً بالتباين والاضطراب، يعتوره القلق نتيجة قصور الأداء السياسي، والاعتياد على مصادرة مسألة السيادة والاستقلال في القرار، والاطمئنان المستمر إلى التبعيّة والمأجوريّة، فأعرب المصدر الرسمي السعودي عن تطلعه إلى علاقات حسن الجوار، وبالمقابل لوّح بالتهديد بالرد الحازم، وأوعز إلى كتَبتِه بالتعبير عن موقف يتماهى بل ينحاز ويناصر الموقف الصهيوني تجاه الاتفاق والأوضاع والسياسات في المنطقة، وأكّد هؤلاء الكتبة باعتزاز، وتأييد، وإعادة نهج «عاصفة الخرم» ضد الشعب اليمني مشيرين إلى أن لقاء قادة الخليج مؤخّراً في كمب ديفيد كان ضحكاً على لحاهم، فسلّطوا «أقلامهم» فحسب نقداً على الإدارة الأمريكية، والرئيس تحديداً.
إذن، الموقف لا يصدر عن قلق فقط، بل عن انكسار أيضاً. وعن قصور في فهم الواقع والقادم من المتغيرات في السياسة الدوليّة، والإقليمية تحديداً. وبهذا يكون للموقف الصهيوني مايبرره. لكن يبدو أن هذه المبررات هي نفسها للرجعية العربية بثوبها الوهابي المتطرّف حيث يلتقيان في مشترك مهم هو مناهضة المشروع الوطني العروبي في صراعه المستمر مع المشروع الصهيوني.
من جهة أخرى، يعبّر الموقف السعودي عن خوف حقيقي يبدو أن له مسوغات ومبررات لا نعرفها بدقة بعد، فأهل مكة أدرى بشعابها، خوف وقلق لايجرؤ أصحابه على الإفصاح عنه، لكنه واضح، وكما يقال إن أول الرقص حنجلة.
ومن هنا كان الموقف العربي السوري سبّاقاً في الإعراب عن الثقة والتفاؤل بانسجامه مع المجتمع الدولي من هذا الاتفاق، وكانت رسالة الرئيس الأسد إلى السيدين خامنئي وروحاني تعبيراً عن امتلاك سورية التصوّر الاستراتيجي الإيجابي والفاعل لما سينجم من تحوّل جديد في العلاقات الدولية بسبب اتفاق مصدره الحوار السياسي والدبلوماسي لحل الأزمات، لا الصراع ودعم الإرهاب والتطرّف والتكفير. تصوّر يتأكد خلاله مع الأيام أن الحكومات التي دعمت المؤامرة على سورية باتت تدخل بالتوالي في نفق العزلة والإخفاق وصولاً إلى العجز والخيبة.
ومن نتائج هذا الاتفاق «المديد» أنه سيضع الحكومات على محك اختبار مكافحة الإرهاب من جهة، وتحسين العلاقات بين الدول والشعوب بعيداً عن العنف والتطرف من جهة ثانية.
ومفروض علينا كعرب أن نبادر إلى حصد النتائج الإيجابية لهذا الاتفاق، وألاّ نكرّس الانزياح في الهواجس العربية من الصهيونية إلى الأصدقاء بل الأشقاء الإيرانيين، وأن ننظر باعتبار إلى التقاطر الغربي المرتقب إلى إيران التي أثبتت الوقائع أنها لاعب جيد وناجح، فاستطاعت بمفردها أن تنجح في حوار الدول العظمى. ومن ينجح في هكذا حوار لايخشى من يبيع السيادة والثروات والحق والواجب.
ولهذا نحن متفائلون أولاً لقلق هؤلاء، وثانياً لامتلاكنا تصوراً استراتيجياً صار من المؤكد أنه قوي وفاعل.