«..نظرت )عائشة الحرة ( إلى ولدها )أبي عبد الله الصغير( ، سمعا معا صهيل الخيل فوق الهضبة والتي سميت فيما بعد ب )هضبة زفرة العربي الاخيرة ( ، نزلت على إثر تنهداتها ، دمع من عيني ولدها .. الأمير المخلوع )أبو عبد الله( ..حيث صار عزاؤه هو البكاء ... حينها .. نظرت إليه أمه ...قالت له : نعم .. ابك .. ابك كالنساء ملكاً مضاعاً .. لم تحافظ عليه كالرجال ... كانت قطرات الدموع هذه هي آخر عهد المسلمين بالاندلس .. وآخر عهد أبي عبد الله نفسه بهذه البلاد بلاد الفردوس المفقود !... »
أنظر في وضع اقتصادنا هذه الأيام فيصيبني الألم ، وكأني أرى القائمين عليه – دون استثناء- مثل أبي عبد الله الصغير ، فرجالات اقتصادنا أضاعوا أيام الازدهار وانفتاح العالم علينا دون استفادة حقيقية من الفرص التي أتيحت! لقد اتفق الجميع على أن سورية أرض بكر للاستثمارات ، وتملك ميزات لا مثيل لها من الموقع الجغرافي والمواد الأولية والخبرات واليد العاملة والفرص الاستثمارية المغرية والأهم أنها «كانت » البلد الأكثر أماناً في العالم.. كثيرون أغرتهم سورية من أبنائها المقيمين والمغتربين ، من العرب والأجانب ، انهمرت الشركات العالمية في محاولات للحصول على حصة من الكعكة الاستثمارية!
لم يكن مسؤولونا وحتى موظفونا بمستوى الأمانة والمسؤولية ، بحثوا عن الاستفادة الشخصية بدلاً من إفادة البلد ،بحثوا عن «الاستعراض » بدل النتائج، بحثوا عن العمولة والسمسرة و بدلاً من إنجاز المشاريع، والعمولة عادة تأتي من المشاريع الريعية ذات الربح العالي فكانت الأولوية للمصارف والتأمين والخدمات ، والأهم لسمسرة العقارات التي جاءت تحت مسمى «تطوير عقاري !!» لم أكن أبداً ضد أي استثمارات تأتي للبلد فكلها ضرورية وكلها تؤمن فرص عمل ، لكن كنا نقول دائماً أن تعطى الامتيازات للمشاريع الانتاجية، لم أكن أبداً ضد الاستثمارات الخارجية لأنها تؤمن مصادر دخل جديدة ، ولكن قلنا دائماً أن ابن البلد أولى بالامتيازات..
أضعنا أيامنا في إزعاج المستثمرين بقصص التراخيص والأراضي والمياه والكهرباء والصرف الصحي وسعر الطاقة ، وهكذا أضعنا آلاف المشاريع ومئات آلاف فرص العمل ، أضعنا التنمية المتوازنة في البلد ، وباختصار أوقفنا دوران العجلة بالبيروقراطية والمصالح الشخصية ، و »يباسة الرأس «أحياناً! أضعنا أيامنا في قرارات السماح باستيراد اللوز المقشور ومنع تصدير كسبة الصويا!! لم تخل سنواتنا الماضية من توترات سياسية ، ولكن بقيت علاقاتنا الاقتصادية متنامية ، وانفتح العالم ، وخصوصاً أوروبا علينا أفضل من أي وقت ، جاء ممثلو الشركات الكبرى ، بدا الحديث عن مشاريع عملاقة للمطارات والسكك والأنفاق و الاوتوسترادات والطاقات المتجددة والمصافي النفطية .. لم يتحقق شيء لأننا كنا نكذب على الجميع ، نريدهم أن يعملوا ولكن لا نريدهم أن يربحوا ، المهم عمولات وليس المشروع ، هناك من كان يوجه ممثلي الشركات الكبرى إلى ضرورة منح الوكالة أو أن يتشاركوا مع فلان أو علان لتكون أمورهم بخير ووفق اتفاقات «مجحفة » لا يقبلها حتى عقل البزنس !!
فتحت لنا أبواب تمويل المشاريع الكبرى وتنفيذها ، جاءت وفود رسمية واقتصادية ، و زارت وفود سورية معظم دول العالم الهامة والنتيجة كانت «ولائم ومجاملات « لأننا عندما يحين وقت الجد لسنا جديين أو لسنا أصحاب قرار أو حتى »فاسدون !» لقد جرب فينا المسؤولون كثيراً ، نفَسوا خلافاتهم في جسم الاقتصاد ، وضعوا خططاً لا تنفذ ، ورسموا استراتيجيات على الورق .. باشروا مشاريع وخططاً طموحة ولكن : ولم أر في عيوب الناس عيبا.... كنقص القادرين على التمام! قد يقول قائل ، ربما كان من حسنات الحكومات السورية أنها «مترددة » ولم تفتح الأبواب للشركات التي ظهرت خلفياتها اليوم؟! سؤال وجيه ولكن نقول أن قدر سورية أن تنفتح على العالم لا أن تنغلق ، ولو استفدنا من سنوات الازدهار – التي نعلم بحكم وضع سورية أنها قد لا تدوم – لبنينا اقتصاداً أقوى وجمعنا رصيداً أكبر من العملات الأجنبية والمعادن الثمينة ، لأقمنا آلاف المشاريع وأمنا فرص عمل لمن يخرجون في الشوارع اليوم لأنهم عاطلون عن العمل !
لقد صممت قوانيننا لمحاسبة من يعمل ويخطئ ، لكن لا يوجد قانون واحد يحاسب من لا يعمل ، من جمد البلد والتطور بحجة «التدرج والدراسة والتمحيص والحرص على المصلحة العامة وحرفية النصوص !!» أضعنا فرصة «تربية » القطاع الخاص ليكون وطنياً فأبقيناه انتهازياً طفيلياً يبحث عن الربح السريع والاستثناءات لأن القوانين وضعت بطريقة تجعل القرار للمسؤول وليس للنص الشفاف، وبالتالي سادت سياسة «الهبش » بدلاً من المنافسة الشريفة . أتأمل في سنوات مضت ، كم من المؤتمرات حضرت ، كم من البلدان زرت ، كم من الاتفاقيات عاصرت ..كلها كانت في عصر ذهبي اتيح للاقتصاد السوري لكن لم نستفد منها أبداً !! لذلك ، لو كان لدى مسؤولينا أي حس بالوطن لبكوا اليوم على اقتصادنا . بكوا كالنساء ، اقتصاداً لم يحافظوا عليه كالرجال !