الخميس 2008-03-06 16:25:51 **المرصد**
بعد عشرين سنة وصلت رسالتي لسارة

بقلم :عصام الصافتلي:

في الشتاء حيث المطر والعواصف والبرد القارس أنتظر شروق الشمس يومياً للجلوس تحت أشعتها الدافئة...أجمل الأوقات بالنسبة لي هي الفترة التي تلي سقوط المطر في شهر كانون الثاني شهر الخير والبركة والأمطار في بلادنا ... أحب المطر ...أحب السير تحت المطر... أحب الجلوس على سطح منزلي تحت أشعة الشمس بعد سقوط المطر...في إحدى جلساتي لفت نظري منزل يبعد عن منزلي أكثر من مائة متر...هذا المنزل يتألف من طبقتين وله شرفة تطل على ساحة واسعة... المنزل لم يكن سبب تركيز نظري على شرفته بل السبب الفتيات الثلاث اللواتي كن على شرفته...الفتاتين الأولى والثانية كانتا تراقبان كل شخص يمر وكل سيارة تعبر الشارع، وكانتا تقومان بحركات رياضية أكروباتية ...أما الفتاة الثالثة فكانت تجلس في زاوية الشرفة واضعة يدها اليسرى تحت خدها...لم تكن تنظر إلى الأشياء المتحركة التي تعبر الشارع أمامها، بل كانت دائمة الشرود ...كان رأسها ثابتا لا يتحرك... الساعة قد تجاوزت الثالثة والنصف  بقليل ...رغم ذلك الفتاة الشاردة ما زالت ترتدي اللباس المدرسي...الأمر الذي حيرني لماذا الفتاة الشقراء مازالت ترتدي اللباس المدرسي وقد مر على موعد الانصراف من المدرسة أكثر من ثلاث ساعات...عند المساء أنقضى يومي بعد أن غابت شمسي

بقيت صورة الفتاة الشقراء عالقة بخيالي...ومن ذاك اليوم قبل ربع قرن شيء ما تغير وتبدل ودخل إلى حياتي ....

 رغم المطر و رغم البرد القارس كنت أحس أن الشمس دائمة الشروق... لم تعد تغيب أبدا ...أصبحت كل الأوقات بالنسبة لي شمس مشرقة...أصبح لدي عمل جديد لاهو موسمي ولا فصلي بل دائم...خلال جلوسي الدائم و الطويل تحت أشعة الشمس في شهر كانون الأول و كانون الثاني والعشرة أشهر الأخرى استطعت معرفة كل شيءعن الفتاة الشقراء ذات الشعر الطويل ...حفظت طريقتها في المشي حفظت كل ألوان ثيابها ومواعيد دخولها وخروجها وأشكال صديقاتها وعددهن، الشيء الوحيد الذي لم أستطع معرفته هو شكل وجهها ولون عينيها ...كنت أستطيع تمييزها من بين ألف فتاة لكن من خلال مشيتها وثيابها وليس من خلال شكل وجهها الذي رسمته بخيالي كما أحب وارغب وأشتهي...إنه أجمل وجه على وجه الأرض بالنسبة لي أما تفاصيله فكلها كانت مثالية وقياسية بالنسبة لي ...لذلك كنت دائما أخشى أن أراها فجأة لأنني حقيقة لم أكن ارغب بمعرفة شكل وجهها الحقيقي   الوجه الذي أصبح شريك كل ثانية أحياها...هذا الوجه جعلني أرسم وأكتب له يوميا كتبت له عن المستقبل الذي أراه مناسبا له ...عن المستقبل الذي رسمته له ...عن طريقة الوصول لهذا المستقبل...بمرور الأيام كثرت كتاباتي وكثرت أوراقي ورسوماتي ... الكتابات التي تكدست لدي عجزت عن إيجاد ساعي بريد يحملها إلى حيث أحب وأرغب...لذلك قررت جمعها في كتاب... فجمعتها بكتاب مؤلف من ثلاثمائة صفحة بعد الاختصار الشديد

بعد تفكير عميق كتبت "لسارة" رسالة طويلة جدا حدثتها بها عن نفسي وعن الكتاب الذي كتبته لها وأرسلتها لها مع إحدى الصديقات...في اليوم التالي أرسلت لي "سارة" رسالتي مع رسالة كتبت لي بها " أنا لا أستطيع التعامل مع شخص لا أعرفه "...رسالتها سببت لي صدمة أثرت عليّ وعلى كل حياتي...بعد بضعة أشهر التقيت بصديقتها "منى" فسألتني عن الكتاب وعن محتوياته ...أخبرتها كل شيء وبالتفصيل الممل...فقالت : يجب أن تلتقي"بسارة" بأسرع وقت ممكن وأنا التي ستصّنع هذا اللقاء ولو كان آخر عمل أقوم به بحياتي ...بعد يوم واحد أخبرتني "منى" عن المكان الذي سنلتقي به أنا و"سارة".... يوم اللقاء لم يكن بالنسبة لي ككل الأيام ...فأنا ذاهب للقاء كل أمالي وأحلامي وأفراحي، و ربما كل خيالاتي وأوهامي وأمراضي                                               

عندما وصلت إلى مكان اللقاء كانت" سارة" تجلس واضعة يدها اليمنى تحت خدها  ألقيت عليها تحيتي الأولى و نظرتي الأولى ...أحسست بارتباك شديد فأنا أمام شخصيتين الشخصية الحقيقية والشخصية التي عاشت طويلا معي ومع أوراقي وأقلامي ...الفارق بين الصورتين كان كبيرا جدا ،رغم ذلك كانت "سارة"جميلة لكن نبرة صوتها لم تكن كما كنت أحلم،كان صوتها قويا وحادا ولا يتناسب أطلاقا مع ما كنت أتخيله دائما،شتان مابين صوتها والصوت الذي كنت أسمعه دائما يناديني ويحدثني....

بعد أن قدمت نفسي لها،قلت: لقد علمت ما كان من أمري فهل ترغبين بتوجيه أي سؤال لي ...فقالت لا يوجد لدي أي سؤال ...لم أستطع الاستمرار والصمود أكثر فقلت لها سررت برؤيتك ...إلى اللقاء ...فقالت لي إلى اللقاء ، لقائي بها لم يستمر أكثر من سبع دقائق ..انكسرت كل أمالي وكل أمنياتي  فقررت أن أغادر البلد نهائياً أن أهاجر ...أن أسافر

وصل خبر سفري إلى سارة فأرسلت لي رسالة : انتظرني يوم الاثنين أمام الجامعة ذهبت إلى الموعد المحدد حاملاً فتاتي بين أفكاري لألتقي بالفتاة الأساس التي من وحيها صنعت فتاة أحلامي،أستمر اللقاء لمدة تزيد عن الثلاث ساعات... و في النهاية قالت :ماذا تريد مني...لم أستطع النطق بجواب فوري ...ربما انتظرت أن أقول لها أنت كل حياتي وأنت حبي الوحيد...  لكنني فجأة وجدت نفسي أقول لها لدي لك عرض فهل تقبلين به؟ فقالت ما هو عرضك؟ قلت لها: إما أن تكوني أبنتي وأنا أبوك وإما أن تكوني أنت أمي وأنا ابنك !! ضحكت طويلاً من كلماتي وضحكت أنا بسبب استمرارها بالضحك ...في النهاية قلت لها: اختاري الآن ...فقالت اخترت أن تكون أنت أبي ..أمضيت بقية اللقاء معها وهي كلما خاطبتني تقول لي يا سيد أبي وافترقنا ولم ألتق بها أطلاقاً بعد هذا اللقاء، لكنني كنت أتابع أخبارها بشكل دائم سارة تخرجت من الجامعة وتزوجت وأنجبت ..وأنا كذلك ...ولم أر وجهها أطلاقا وبعد عشرين سنة جاءني أحد أصدقائي وقال:هل تذكر الكتاب القديم الذي كتبته لسارة؟فقلت له:نعم أذكره،لكن لماذا تسأل عنه؟فقال لي:إذا كنت ما تزال تحتفظ به أريد استعارته منك لمدة أسبوع واحد فقط!!! فقلت له لماذا تريده ولماذا تذكرته الآن؟؟ قال:كنت أبحث في دفاتري وكتبي القديمة فوجدت بين الكتب والقصص كتاب من كتبك القديمة ففتحته فوجدت به رسالتك التي كتبتها لسارة قبل أكثر من عشرين سنة!!فوضعتها في محفظتي وعندما التقيت بسارة قلت لها معي رسالة لك...وأعتذر منك لأنني تأخرت قليلا بإيصالها لك!!فقالت ممن هي ومنذ متى أرسلت لي؟فقلت لها مرسلة لك منذ أكثر من عشرين سنة!!!ثم سلمتها الرسالة...وبعد أن قرأتها قالت لي أرجوك حاول أن تحضر لي الكتاب الذي كتبه لي فوعدتها أن احضره لها إذا كان موجودا وطبعا بعد إذنك ومشورتك ...فقلت له الكتاب موجود وستأخذه لها الآن...وأخيرا خرج كتابي من قبره وذهب إلى أهله وها هو يرى الحياة من جديد ..كانت سعادتي كبيرة جدا ..صحيح أن الأوان قد فات  لكنني كنت أحس دائما بأن هذا الكتاب ملكها وليس ملكي...بعد شهر من وصول الكتاب لها كنت مع أحد أصدقائي عندما أتصل به أحد أصدقائه ودعاه لشرب الشاي حاول صديقي الاعتذار بحجة وجودي معه ...أصر صديقه وقال له أحضر صديقك معك دخلنا إلى منزل صاحب الدعوة ...بعد السلام اكتشفت أن صاحب الدعوة زوج أخت "سارة"...وسارة موجودة...إنها تجلس أمامي تماما ...لكنها لاتنظر إلي...ياإلهي إنها لا تذكرني ولا تعرف من أنا...مرت الدقائق مسرعة وحان موعد انصرافنا...عند الباب دار حديث قصير بين الصديقين وكان اسمي من ضمن كلمات هذا الحديث...عندما سمعت "سارة"اسمي تغير لونها وتقدمت مني ...وصرخت بي أهذا أنت..وينك ..وينك ..أريد رؤيتك و بأسرع وقت ممكن..بل غدا..غدا..غدا..

للحديث صلة ... لا أدري إن كنت سأكمله أو لا ؟!!

 

 

 

 

 

ٍ جميع الحقوق محفوظة لموقع syriandays - syrianews - سيريانديز- أخبار سورية © 2024