أقامت وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية اليوم ورشة عمل حوارية في هيئة الاستثمار السورية بمشاركة وزارتي المالية والشؤون الاجتماعية والعمل ومصرف سورية المركزي وهيئة التخطيط والتعاون الدولي تحت عنوان “السياسات الاقتصادية الراهنة.. الواقع والتحديات والآفاق المستقبلية”.
وبحث المشاركون في ورشة العمل المقترحات والرؤى والأفكار لتحقيق التنمية في القطاع الاقتصادي وتحديد شكل وبنية الاقتصاد الوطني في المرحلة القادمة.
وأشار وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية الدكتور محمد سامر الخليل إلى أن المشهد الاقتصادي في سورية ينطوي على جملة من التعقيدات والمشكلات المتراكمة، لأسباب عديدة، بعضها يعود إلى خلل في بنية الاقتصاد السوري.
وهذا الخلل البنيوي عمره أكبر من عمر الحرب الأخيرة على سورية والأزمات التي رافقتها منذ عام 2011.
وأوضح أنّ معالجة التعقيدات التي تشوب المشهد الاقتصادي لا يمكن أن تتم من خلال الإجراءات والقرارات، إذ إنّ ذلك لن يكون مجدياً ما لم يتم الانطلاق من رسم السياسات، مؤكداً أنه من غير الطبيعي ومن غير المنطقي أن نستمر بالرؤى نقسها التي أنتجت بعض السياسات غير المجدية.
واستعرض الوزير الخليل السياسات التجارية قبل الحرب وخلالها ولغاية الآن مبيناً أنه خلال الثمانينيات من العقد المنصرم عانت سورية من حصار اقتصادي خانق، لم يكن بالمقدور التعامل معه والخروج منه دون إجراء تغيير في الفكر السياساتي على صعيد فسح المجال للقطاع الخاص بشكل أكبر لممارسة العمل التجاري الخارجي.
وتطرق الوزير إلى فترة الحرب ولاسيما عام 2012، حيث تضررت البنية التحتية والخدمية بشكل كبير وممنهج، ومع خروج الكثير من المناطق السورية عن السيطرة، ولاسيما تلك التي تتواجد فيها ثرواتنا النفطية وغلتنا الغذائية، ومع انخفاض عدد السياح بشكل كبير، وتراجع الإنتاج والتصدير، وبالتالي تراجع مصادر تأمين موارد الدولة من القطع، كان لا بدّ من انتهاج سياسة تجارية تقشفية ومنضبطة ومتوازنة.
وفي إطار الحديث عن السياسات المستقبلية أشار الخليل إلى السياسات العامة التي رسمتها وزارة الاقتصاد والتجارة الخارجية لتسير عليها، ومنها سياسة التجارة الخارجية التي تمزج بين الحرية والتقييد لضمان التأثير على مستوى الإنتاج والعمل بما يحقق معدلات نمو حقيقية قابلة للاستمرار وتصحيح الميزان التجاري لجهة زيادة القدرة التصديرية بما يؤمن إمكانية تمويل المستوردات المحفزة للنمو وأهمها مستلزمات الإنتاج الصناعي والزراعي، وزيادة فرص العمل. بالإضافة إلى سياسة تنمية الصادرات، والسياسة الاستثمارية القائمة على التنويع الاقتصادي وتعزيز دور القطاع الخاص في التنمية.
وفي كلمته أكد وزير المالية الدكتور كنان ياغي أن الضرورة أصبحت ملحة حالياً للوصول إلى مقاربة مختلفة للاقتصاد تتضمن تحديد دور الدولة في كل القطاعات سواء في الزراعة أو الصناعة أو الطاقة أو الخدمات وغيرها وشكل النظام الاقتصادي القادم وماهية دور القطاع الخاص في شكل وبنية هذا الاقتصاد.
وتحدث الوزير ياغي عن الاختلال الهيكلي الكبير بين بندي الإيرادات والنفقات في الموازنة العامة للدولة خلال سنوات الحرب على سورية في ظل تراجع كتلة الإيرادات كنتيجة مباشرة لخروج إيرادات النفط والثروة المعدنية من الحجم الكلي لهذه الإيرادات.
ولفت الوزير ياغي إلى أن كل ما سبق أدى إلى تغيير في سياسات وزارة المالية لإعادة التوازن للإيرادات في الموازنة العامة للدولة بينما ما زال هناك عبء كبير في الإنفاق نتيجة ظروف الحرب والحصار الاقتصادي على سورية وارتفاع معدلات التضخم، مبيناً أن الوزارة قامت بتخفيض معدلات الضريبة على كل الشرائح بعد إجراء لقاءات مكثفة مع الاتحادات والنقابات والحرفيين مقابل زيادة الالتزام بالتحصيل الضريبي وتطبيق الربط الإلكتروني للفواتير المصدرة.
وبيّن وزير المالية أن عدد مكتومي القيد الضريبي هائل والالتزام ما زال نسبياً وليس كاملاً في مسألة التحصيل الضريبي ولاسيما في الضريبة على الدخل، مؤكداً مضي الوزارة في عملية التحول بالنظام الضريبي إلى نظام شفاف واضح يقوم على الضريبة على القيمة المضافة والضريبة الموحدة على الدخل ومن المتوقع البدء بذلك مطلع العام القادم وسيكون له أثر واضح على الإيرادات العامة.
وفي كلمته لفت وزير الشؤون الاجتماعية والعمل لؤي المنجد إلى أهمية الحوار الوطني بين كل المكونات لوضع قواعد جديدة ورسم سياسات اقتصادية تؤدي إلى إيجاد حل متكامل وبناء للضائقة المعيشية، مشيراً إلى أن النقاش يجب أن يكون أساساً للمشاركة الاقتصادية من قبل القطاع الخاص والمنظمات غير الحكومية.
وطرح الوزير المنجد عدداً من التساؤلات خلال الورشة الحوارية حول مدى فعالية القطاع الثالث متمثلاً بـ “الجمعيات الأهلية والغرف والاتحادات والنقابات وغيرها” في المساهمة بالاقتصاد الوطني، مبيناً أنه لا يمكن تحقيق أي استدامة في البرامج الاجتماعية بمعزل عن العمل، مشيراً إلى أهمية الورشة في الارتقاء بالحوار تحضيراً لاتخاذ القرارات الاقتصادية.
من جهته أوضح حاكم مصرف سورية المركزي الدكتور محمد عصام هزيمة أن المركزي يعمل وفقاً للدور المنوط به على ثلاثة محاور رئيسية هي سعر صرف الليرة السورية والتضخم وانعكاس هذين المحورين على أسعار المواد والسلع وسلط الضوء على العوامل التي أدت إلى انخفاض الواردات من القطع الأجنبي خلال سنوات الحرب.
وأشار الدكتور هزيمة إلى أن المركزي مستمر في سياساته الهادفة للحفاظ على الاستقرار النقدي والمالي بما يسهم في تحقيق أهداف السياسة الاقتصادية الكلية وبناء سياسة نقدية فاعلة ومؤثرة تستهدف الحفاظ على استقرار سعر صرف الليرة السورية ومعدل تضخم منخفض ومستقر وتسهم في توفير البيئة الملائمة للاستثمار ودعم النمو الاقتصادي إلى جانب تبني استخدام أدوات الدفع الإلكتروني كأداة حيوية لتحقيق الأهداف قصيرة وطويلة الأجل.
ولفت الدكتور هزيمة إلى أن المركزي ومنذ بدء الحرب على سورية لم يقم من خلال سياسته النقدية بإلغاء أي أداة مصرفية أو مالية وحتى الاعتمادات والكفالات المالية ما زال معمولاً بها وكل ذلك بهدف تحريك الاقتصاد وتحقيق النمو المنشود، وفيما يتعلق بالسياسات أوضح أن المركزي يتوجه نحو توحيد نشرات أسعار الصرف كيلا يبقى هناك فروق بين سعر صرف الليرة في النشرة الرسمية ونشرة السوق ونشرة الحوالات، مؤكداً أن ذلك من أهم أهداف المركزي.
رئيس هيئة التخطيط والتعاون الدولي الدكتور فادي سلطي الخليل أوضح أنه خلال فترة الحرب لم تعد السياسات الاقتصادية معلنة بل أصبحت إجرائية تعمل على الاستجابة الآنية لمفرزات الحرب وتسخير السياستين المالية والنقدية للتعامل مع مشكلات محددة مثل نقص الموارد ومواجهة اتساع الاحتياجات وتدهور سعر الصرف وما تبعه من ضعف القوة الشرائية وارتفاع الأسعار ومعدلات الفقر، مشيراً إلى أنه في عام 2017 بدأ التفكير بإطلاق سياسات أو مسارات تنموية من خلال السياسات الاقتصادية وإعداد خطة وطنية للخروج بشكل تدريجي من مفرزات الحرب إلى مرحلة التعافي والانتعاش.
وبيّن الدكتور الخليل أن هناك معاناة من الفجوة بين السياسات المخططة والمنفذة وضعف التيقن من مدى كفاية وملائمة السياسات التي تم تبنيها وعدم إمكانية التنفيذ وغياب منظومة الرصد والتقييم، مشيراً إلى أهمية استخدام سياسات وأدوات تقود إلى تخصيص الموارد وإعادة توزيع الدخل وتوجيه النشاط الاقتصادي من خلال تحديد الدور المعياري والموضوعي للدولة وتحقيق التشارك المجتمعي مع القطاعين العام والخاص والمجتمع الأهلي.
وأدار الورشة الدكتور عامر خربوطلي مدير غرفة تجارة دمشق الذي أشار إلى أهمية مثل هذه الورشات في توسيع دائرة الحوار والخروج بمخرجات وأفكار حول توصيف وتشخيص حقيقي للواقع الاقتصادي ووضع تصور لاقتصاد قوي ومتجدد، لافتاً إلى أنه لا معنى للسياسات الاقتصادية إذا لم تحقق معدلات نمو اقتصادي مرتفعة وزيادة في مستويات الناتج المحلي وبالتالي تحسين مستوى الدخل.
وتركزت مداخلات الحضور والمشاركين حول كيفية اتخاذ القرار الاقتصادي وتجديد القوانين والتشريعات الناظمة لتتناسب مع روح العصر مع إجراء تقييم ومراجعة للقرارات المتخذة وتحقيق استقرار بين الأجور والأسعار وتقييد الاستيراد وضرورة إدارة الاقتصاد بالتخطيط وليس بالمقترحات.
كما تطرق المشاركون إلى ضرورة ربط العلاقة بين الاقتصاد والسكان والعلاقة بين الدولة والمجتمع ودعم القطاع التصديري والمصدرين وإعادة هيكلة الدعم وتوحيد الفكر والأهداف وتحديد السياسات ودعم قطاع الأعمال ودعم الفئات الهشة.
وأشار المشاركون إلى ضرورة توضيح هوية الاقتصاد السوري وتحسين مناخ الاستثمار واتباع سياسة الحماية الاجتماعية والتركيز على المشاريع الصغيرة والمتوسطة لأنها الركيزة الأساسية لعملية التعافي الاقتصادي، مشددين على ضرورة إعطاء الأولوية للإنتاج في قطاعات الزراعة والصناعة.
وطرح بعض المشاركين ضرورة تبني سياسات اقتصادية ترضي توقعات المواطنين وتعزز الثقة بين المجتمع وهذه السياسات وإعادة الإنتاج المحلي بقوة ونشر الأرقام والإحصائيات الدقيقة للقطاعات المعنية، مقترحين إمكانية عقد مؤتمر على مستوى أشمل يضم جهات مختلفة ذات صلة ومناقشة الأفكار والطروحات والتفكير بحلول مفيدة وناجعة على المستوى الاقتصادي.
وفي رده على المداخلات أشار الوزير الخليل إلى أن دعم القطاع العام في مطارح جديدة في قطاعات ليس لها جدوى اقتصادية يؤثر بشكل سلبي على الاقتصاد الوطني وهذا الأمر في غير محله الاقتصادي، كما أن الدعم للمواد بأشكاله الحالية أصبح غير مجدٍ، حيث يرهق كاهل الدولة ويستنزفها ولا يستفيد منه المواطن بشكل حقيقي، داعياً جميع المشاركين بالورشة إلى موافاة الوزارة بأوراق عمل تتضمن المقترحات لتحقيق التنمية الاقتصادية المطلوبة لمناقشتها على مستوى اللجنة الاقتصادية الحكومية.
من جانبه أوضح الوزير ياغي ضرورة إعادة النظر في شكل الدعم وأساليبه ومستحقيه وهل سيتم الانتقال من دعم السلعة إلى دعم المواطن بشكل مباشر، مبيناً أنه بعد كل تراجع في مستوى المعيشة نتيجة محدودية الرواتب والأجور كان يتم زيادة الدعم الحكومي للمشتقات النفطية والدقيق التمويني، معرباً عن أمله بالوصول إلى مخرجات ومقترحات بناءة بنهاية الورشة الحوارية.
من جهته أكد الوزير المنجد ضرورة المضي في التشاركية بالحوار لإعداد أوراق عمل مرجعية مصوغة على مستوى رسم السياسات، داعياً الحاضرين في هذه الجلسة الحوارية إلى المشاركة مع فريق الحوار في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل للوصول إلى تحقيق الأهداف التنموية المنشودة.
بدوره لفت الدكتور هزيمة إلى العقوبات المفروضة على القطاع المصرفي والتي تمنع سورية حتى من فتح اعتمادات لاستيراد المواد الطبية الدوائية والغذائية ونبه إلى خطورة الطروحات الاقتصادية النظرية غير المبنية على الظروف الواقعية في ظل نقص العناصر المكونة لتحقيق التوازن الاقتصادي والاجتماعي، مؤكداً أن أي طرح يتعلق بالسياسات المالية والاقتصادية يجب أن ينطلق من المعطيات في الواقع الحالي.
رئيس هيئة التخطيط والتعاون الدولي أوضح أنه يجب الانطلاق من واقع الاقتصاد السوري وتشخيصه بشكل واضح لإيجاد الحلول للمشاكل والانطلاق من مفاهيم جديدة من خارج الصندوق من خلال تحفيز النمو الاقتصادي بالموارد الموجودة، وفيما يتعلق بموضوع الدعم أوضح وجوب وضع خطة آمنة للخروج من مفهوم الدعم السابق كفكر إيديولوجي لكل فئات المجتمع.
وفي تصريح للإعلاميين أكد الوزير الخليل أن الجلسة الحوارية انتهجت خطة عمل اعتمدت على ما خطه السيد الرئيس بشار الأسد في اجتماع اللجنة المركزية لحزب البعث العربي الاشتراكي وحديثه في الجانب الاقتصادي الهام، حيث تطرقت إلى الكثير من المحاور والأفكار والطروحات حول السياسات الاقتصادية بشكل علمي ومنهجي وواقعي.
وأشار الخليل إلى وجود مجموعة من المشكلات الاقتصادية في سورية منذ ما قبل الحرب وقد زادت الحرب من آثارها السلبية ولم تستطع السياسات القائمة معالجة المشكلات القائمة أو التخفيف منها بل عمقتها، لذا أصبح من الضرورة مراجعة هذه السياسات وتقييمها وتقويمها كما ينبغي أيضاً مراجعة دور الدولة في الحياة الاقتصادية ودور القطاع الخاص.
شارك بالجلسة الحوارية خبراء اقتصاديون وباحثون وأكاديميون في الاقتصاد وعلم الاجتماع ورؤساء اتحادات غرف الصناعة والتجارة والزراعة وعدد من فعاليات قطاع الأعمال ونخبة من الإعلاميين الاقتصاديين.