سامي مروان مبيّض
"شيخ الكار"...عبارة نسمعها بكثرة هذه الأيام في دمشق نظراً لمحاولة البعض إحيائها من جديد. ولكن يبدو أن إحدى تلك الجهات لم تفهم فكرة شيخ الكار جيداً، وهي تُقدم شهادة ممهورة بختمها إلى بعض صغار التجار وتطلق عليهم لقب "شيخ الكار" مقابل مبلغ قدره 50 ألف ليرة سورية (60 دولار).
هذا الفعل يتنافى كلياً مع جوهر مشيخة الكارات، حيث يُمنع منعاً باتاً شراء اللقب أو الحصول عليه دون موافقة ما كان يسمى بمجلس الكار الذي كان يضم كبار مُعلمي كل صنعة حسب اختصاصهم. في هذا المجلس يتم إنتخاب شيخ الكار، وليس عن طريق أي وزارة أو جمعية، ليكون مسؤولاً عن حفظ أسرار مهنته ومحاسبة كل من يخالف أعرافها وتقاليدها.
كان شيخ الكار لا يقبل الهدايا ولا الأوسمة، ولا يتقاضى راتباً على عمله بل يَصرف من جيبه على تطوير مشيخته. حتى عند طلب شهادته في جودة أي منتج أو عند تحكيمه لأي خلاف بين أصحاب الكار، كان شيخ الكار يرفض أي تعويض مادي.
أما اليوم، فقد ظهرت في دمشق وبفضل هذه "المبادرة" مشيخات لكارات ما أنزل الله بها من سلطان، مثل "شيخ كار الشاورما" مثلاً، أو "شيخ كار الفلافل،" أو "شيخ كار بائع مستحضرات التجميل"...وصولاً إلى "شيخ كار تركيب الطاقة الشمسية." مع احترامنا لهذه المهن وكل من يقوم بها، فهي لا تستوفي شروط مشيخة الكارات بالمطلق، كونها موجودة في كل مكان وليست حكراً على دمشق. وثانياً لأنها تخلو من أي أسرار يستوجب الحفاظ عليها وتوارثها شفهياً عبر الأجيال.
مشيخة الكارات ليست مجرد فولكلور كما تظن بعض الجهات الرسمية أو خيال شعبي مثل جحا، يستطيع أي شخص أن يعبث به كيفما شاء، بل مؤسسة كاملة كان لها هيكلية هرمية واضحة ومرجعية معروفة وأعراف راسخة.
إما أن نحترم قواعدها وأصولها، أو أن نتركها في كتب التاريخ والذاكرة الجماعية لأهل المدينة، دون تشويهها كما شوهنا كل ماهو جميل في دمشق.
أول من ذكر الناس بهذه الظاهرة الجميلة كان الفنان الراحل تيسير السعدي عبر شخصية "أبو ضاهر المنجد" في مسلسل "أيام شامية" في مطلع التسعينيات. ومنذ ذلك الوقت والكثير من الجمعيات تحاول إحياء هذه المنظومة بالرغم من غياب معظم شيوخها الأصليين. مات هؤلاء وأخذوا معهم أسرار مهنتهم ومنهم من قام بنقلها شفهياً إلى أولادهم وأحفادهم من بعدهم، ولكن أبناء الجيل الثالث والرابع تخلوا عنها نظراً لتغير نمط الحياة وشح عائدات مهنة الأباء والأجداد.
ولكن قلّة قليلة منهم حافظوا على تلك المهن حتى اليوم، وتعاملوا معها بمنتهى الحرص والجدية والأمانة. من هؤلاء مثلاً احفاد مارسيل مزنر، شيخ كار البروكار، الذي يقال أن أُسرته قدمت جزء من قماش ثوب عرس الملكة اليزابيث عام 1947.
وأما عن بقية الشيوخ الأصلين نذكر منهم المعلم جرجي بيطار شيخ كار الموزايك، والمعلم موريس نصيري شيخ كار النحاسيات المطعمة بالفضة، والمعلم لويس الصرّاف شيخ كار المينا على النُحاس، والمعلم أبو يحي نعمة شيخ كار الصدف. ومن هؤلاء أيضاً المعلم فائز التلمساني شيخ كار الزجاج المعشق، والمعلم أسعد رمضان شيخ كار القيشاني، والمعلم أبو سليمان الخياط شيخ كار العجمي. هؤلاء الكبار كانوا يختارون من يستوفي شروط الانتساب إلى صنعتهم، بعد تجاوزه لامتحان عملي دقيق وتدرّيبه في كنف أحد المعلمين المتعارف عليهم من قبل مجلس الكار.
ومن صلاحيات هؤلاء إعطاء رتب لكل العاملين في مهنتهم، من "مبتدئ" و"صانع" وصولاً إلى "مُعلم ماهر." ولم يحصلوا على مرتبة شيخ الكار إلا بعد أن شهدت لهم دمشق بأخلاقهم العالية وبإحترام أهل كارهم لماضيهم وعملهم. جميع هؤلاء درسوا كارهم منذ الصغر ووصلوا إلى ما وصلوا إليه بسبب مهارتهم فقط، لا نتيجة عمرهم أو ثروتهم أو جاههم. وكان يحق لكل مجلس كار أن يعزل شيخه في حال مخالفته للأعراف أو إفشائه الأسرار أو رفضه الاستماع إلى مشورة الأعضاء.
أين نحن اليوم من كل ما سبق؟ إحتراماً لهؤلاء الكبار، يجب أن لا نعبث بإرثهم ومنجزاتهم، وأن لا نعطي لقب "المشيخة" إلى من لا يستحقها. هؤلاء الشيوخ قدموا الكثير الكثير لهذا البلد، من جهدهم وصبرهم وعِلمهم ...حتى من بصرهم وصحتهم، ومات معظمهم حتى دونما ذكر أسمائهم، ليتم استبدالهم اليوم... بشيوخ جدد.