سيريانديز
لم يستطع «أبو محمد باش» الرجل الستيني منع نفسه من البكاء أثناء سيره في مدينة حلب القديمة، مفضلاً عدم ركوب دراجته الهوائية، التي كان يسير بها ماشياً عند المرور بأسواقها المدمرة، البالغة 38 سوقاً تخصص كل منها ببيع منتجات معينة كسوق العطارين والحدادين، تحتاج أموالاً طائلة لإعادة ترميمها وتأهيلها من جديد، فحجم الضرر، الذي ألحقه الإرهابيون يفوق كل تصور حيث باتت أغلبية الأسواق المسقوفة مهدمة على نحو كامل باستثناء بعضها ألحق به ضرر جزئي كسوق السقطية وباب إنطاكية وسوق الجمرك المعروف.
برغم دموع أبي محمد فقد غافلته عند سؤاله عن مقدرة الحلبيين على إعادة مدينة حلب القديمة إلى وضعها السابق، يبدو تفاؤله بإمكانية إنجاز ذلك برغم كل الصعاب، مبدداً الإحباط الظاهر على وجوه بعض تجار المدينة القديمة، فيقول وهو من رفض الابتعاد عنها في أشد أيام الحرب قسوة لكنه اضطر بعد ذلك إلى الانتقال إلى أحد أحياء مدينة حلب، ليعود إلى منزله القريب منها بعد إعلان تحريرها: ما دام هناك حلبيون يعشقون مدينتهم فإصلاح ما دمره الإرهاب ليس مستحيلاً وإن كان يستلزم مليارات الليرات.
إعمار المدينة القديمة!
إزالة أنقاض الدمار في مدينة حلب القديمة تستلزم مليارات الليرات وخاصة عند معرفة أن إعادة إعمارها تتطلب عملاً فنياً ذا طبيعة مختلفة لكون المدينة التاريخية ذات طابع تراثي ومدرجة على لائحة التراث العالمي، لذا ليس المهم فقط تأهيلها وإنما إرجاعها بصورة مطابقة للحالة التراثية والجمالية السابقة بحيث يمنع إجراء أي تغيير أو تعديل عليها مهما كانت التكلفة، وهو ما تسعى إليه محافظة حلب، التي بدأت فعلياً في ترميم أسواق حلب القديمة، بالتعاون مع الأمانة السورية للتنمية ومؤسسة الآغا خان، وكانت البداية من سوق السقطية التراثي، وبناء عليه عادت محلاته المتخصصة بالتوابل والمكسرات والصابون الحلبي وغيرها إلى العمل التجاري في رسالة للعالم على إصرار أهالي حلب على العمل والإنتاج بغية إرجاع مدينتهم إلى دورها الهام كعاصمة اقتصادية للبلاد.
مطالب محقة!
افتتاح سوق السقطية كان بداية تأهيل وإعادة إعمار أسواق حلب القديمة، التي أعلن عن انطلاق المرحلة الثانية منها بعد افتتاح هذا السوق، الذي طالب تجاره عند التقاء «تشرين» بهم بإعادة تأهيل بقية الأسواق في المدينة القديمة بغية المساهمة في تنشيط الحركة التجارية في السوق، وخاصة أن عمل الأسواق الأخرى متكامل مع بعضها، على نحو يضمن للمتسوق شراء كل احتياجاته من أسواق المدينة القديمة من دون الحاجة إلى الذهاب إلى أسواق أخرى، علماً أن هناك أسواقاً مجاورة متضررة بشكل جزئي يمكن إعادة ترميمها خلال فترة قصيرة كسوق باب إنطاكية الذي يضم مئات المحلات باشر أصحابها في إعادة فتح أبوابها برغم عدم توفر البنية التحتية اللازمة كالكهرباء وسط تضرر سقفه على نحو كامل، وهنا يقول أحد تجاره أثناء رشه المياه لتنظيف أرضية السوق أمام محله مازحاً ظناً منه أننا من إحدى المؤسسات الخدمية المسؤولة عن تأهيل المدينة القديمة: كل يوم يأتي مسؤولون «معطرون» إلى السوق لتفحص حال السوق لكن من دون لمس التجار أي نتيجة، جلّ ما نطلبه كتجار سوق السقطية، وخاصة أن الضرر ليس كبيراً في السوق، والأهم تزويد المحلات بالكهرباء، بغية تشجيع بقية التجار على العودة.
في حين يؤكد تاجر آخر وهو صناعي أيضاً دُمّر مصنعه على نحو شبه كامل، لكن بعد تحسن الأوضاع في حلب رمم بعض أقسامه لمعاودة الإنتاج، واليوم يعرض منتجاته في محله الصغير في باب إنطاكية، لكن الحركة قليلة والسبب يعود إلى قوة المواطن الشرائية، التي طالما بقيت على هذا الوضع لن يعود السوق حتى لو تم ترميمه إلى وضعه السابق، كما أن عودة النشاط التجاري والصناعي تتطلب أيدي عاملة شابة، تفتقدها اليوم المعامل والأسواق التجارية، فأغلب الموجودين حالياً من الشريحة العمرية الكبيرة ولن تستطيع النهوض بمهمة إعادة الإعمار كما يجب.
يخالفه الرأي أحد تجار السوق، الذي عاد من ألمانيا منذ فترة قصيرة، مؤكداً إمكانية إعمار المدينة القديمة وكل ما خربه الإرهاب، بقوله: عدت إلى مزاولة عملي في تصنيع الزعتر الحلبي وإعادة عرضه في محلي في سوق إنطاكية، برغم أن الحركة ليست نشطة، لكن أصحاب المحلات باشروا فتح محلاتهم، وتدريجياً مع إعادة ترميم السوق ستعود الحركة إلى سابق عهدها.
ليس مشروعاً!
وللوقوف على واقع تأهيل المدينة القديمة وأسباب عدم تزويد سوق باب إنطاكية بالكهرباء وإعادة تأهيله كسوق السقطية توجهنا إلى محافظة حلب لمعرفة الأسباب الحقيقية وراء ذلك، حيث أكد كميت عاصي الشيخ عضو مكتب تنفيذي في مجلس مدينة حلب ومجالس المدن والبلديات أن مشكلة الكهرباء في السوق ستحل قريباً بعد مباشرة محافظة حلب في تركيب العدادات للسوق، وأصبح وضع الكهرباء بحكم المنتهي تقريباً.
ولفت إلى أنه لم يتم اختيار سوق باب انطاكية مثلاً للبدء في تنفيذ إعادة ترميم المدينة القديمة باعتبار أن حجم الضرر فيه ليس كبيراً ولا يمكن عدّ عمليات ترميم محلاته مشروعاً في حد ذاته، لذا باشر في معالجة المشكلات التي يعانيها السوق بغية تذليلها والإسراع في وضع السوق في الخدمة مجدداً.
حال سوق إنطاكية ينطبق على سوق الجمرك الشهير المحاذي لسوق السقطية، فحجم الضرر قليل جداً وقد أصبح جاهزاً تقريباً لوضعه في دائرة النشاط التجاري لكن أصحاب المحلات ما زالوا يتريثون في إعادة فتحه، مع أن ذلك يحمل الكثير من المؤشرات الإيجابية على تحسن الوضع التجاري في عاصمة الاقتصاد السوري، وهنا يشير الشيخ عاصي إلى أن الضرر قليل في السوق، ومحافظة حلب تحفز أصحاب المحال التجارية على الرجوع، علماً أن 80 % من التجار قد عادوا إلى العمل وهي نسبة جيدة حصلت بسبب التعاون المثمر بين الشركاء الذين أنجزوا مشروع ترميم سوق السقطية، لكن عموماً لا تملك المحافظة الأدوات القانونية لإلزام التجار بفتح محلاتهم إلا أن هناك لجنة مخصصة لكل سوق تتواصل مع أصحاب المحلات من أجل تشجيعهم على العودة وتعزيز الحياة الاجتماعية بينهم، لافتاً إلى أن محافظة حلب تحاول نقل التجربة الناجحة في سوق السقطية إلى الأسواق الأخرى وإعادة الحياة إلى أسواقها، علماً أن هناك تواصلاً مستمراً بين اللجان المختصة من أجل حث التجار على العودة وتقديم كل التسهيلات وتقسيط الدفعات، كما توجد لجنة طوارئ خاصة بالمدينة تعمل بشكل دائم لرفع مستوى الخدمات فيها وتأمين البنية التحتية اللازمة.
وهو ما يؤكده أيضاً رئيس غرفة تجارة حلب محمد مجد الدباغ عبر تشكيل لجان لهذه الأسواق لإعادة تأهيل المحلات التجارية لتعود إلى نشاطها السابق، لافتاً إلى أن سوق الجمرك يضم 140 محلاً، بدأ أصحابها العودة تدريجياً لكن بصورة ضعيفة، لافتاً إلى أن حجم الضرر كبير في أسواق المدينة القديمة لكنْ هناك تصميم على إعادة ترميمها ووضعها في الخدمة بأسرع وقت وسط تقديم الدعم والتسهيلات اللازمة لتحقيق ذلك، وفعلاً- بناء على ذلك- تم تأهيل عدد من الأسواق كخان خيرابك وجادة الخندق وباب النصر وجب القبة، إضافة إلى إعادة تأهيل المحلات الموازية للجامع الأموي، مع قيام التجار بمدخراتهم الخاصة بإعادة تأهيل سوق الحدادين وسط المحافظة على الطابع التراثي للأسواق وعدم المساس بهذه الخاصية تحت أي ظرف.
برغم حجم الدمار الهائل في أسواق المدينة القديمة، إلا أن نسبته تتفاوت بين سوق وآخر، إذ يبين كميت عاصي الشيخ أن بعض الأسواق تضررت على نحو كامل بنسبة 30%، في حين تضررت أسواق أخرى جزئياً بنسبة تتراوح بين 50-60%.
نسأل أيضاً عن أسباب اختيار سوق السقطية دون غيره للبدء في ترميمه دون الأسواق الأخرى مع إن هناك أسواقاً أقل ضرراً منه، ليشير إلى أن سوق السقطية يتوسط العقد بين سوق باب إنطاكية وصولاً إلى القلعة، كما أنه يتوسط أسواق المدينة القديمة، وهو خزان غذائي للأسواق الأخرى المحيطة، ونسبة الضرر فيه ضمن المقبول وقابلية الترميم مجدية أكثر من غيره، لافتاً إلى أن ترميمه كان مشروعاً تشاركياً بالتعاون بين الحكومة ممثلة بمحافظة حلب والمنظمات الدولية والأمانة السورية للتنمية ومؤسسة الآغا خان، علماً أن الترميم أنجز بأيدٍ وطنية وخبرات محلية بحت، مشيراً إلى أن المهم قبل تفضيل سوق عن غيره هو عودة «الرجل» كما يقال إلى السوق من أجل تنشيط الحركة التجارية والبدء في استعادة المدينة مكانتها الاقتصادية.