د. تركي صقر
رسمت التطورات الأخيرة في معارك الحرب على الإرهاب خطوطاً جديدة في المشهد الدولي تجلّت في كسر احتكار واشنطن
وانفرادها في تكوين اصطفافات وتحالفات دولية ظاهرها الزعم «بالقضاء على الحركات الإرهابية» وباطنها تكريس الهيمنة الأمريكية المتمثلة «بالقطبية الأحادية»، وقد فضح الدخول الروسي على خط مكافحة الإرهاب الدولي في سورية المزاعم الأمريكية بأنها وحدها «تقود وتحشد للقضاء على الإرهاب» وأظهر أنها كانت مخادعة وتضلل الجميع في هذه المعركة بل كشف أن معظم التنظيمات الإرهابية من صناعتها وإنتاجها وتستخدمها لتنفيذ مخططاتها السياسية في مناطق عديدة من العالم وتبين أن ما قام به «التحالف الدولي» الأخير بقيادة الولايات المتحدة وطوال أكثر من عام لا يتعدى الاستعراض الإعلامي، وأكد مرة أخرى أن واشنطن ليست بوارد القضاء على «داعش» وإنما احتواء هذا التنظيم وإعادة إنتاجه لمهمات أخرى قد تكون أبعد من العراق وسورية وربما وصولاً إلى روسيا والصين وحتى أوروبا.
من هنا شكلّت قمة نيويورك بين الرئيسين باراك أوباما وفلاديمير بوتين وما تلاها منعطفاً حاسماً في العلاقات الدولية وبشرّت بولادة عالم جديد تغيب فيه القطبية الأحادية وتنتهي منه الهيمنة الأمريكية على القرارات الدولية وكانت المفاجأة الصاعقة أن الحملة الجوية الروسية لضرب الإرهاب في سورية انطلقت على الفور وفي اليوم التالي للقمة ما يعني وفقاً للمحللين «بياناً عسكرياً» بتشييع «القطبية الأحادية» إلى مثواه الأخير، وطبعاً لم يذكر «البيان» النعية بصيغتها الحربية «مناقب الفقيد» ليس لضيق الوقت وطابع البيانات العسكرية المختصرة فحسب، بل لسوء ذكره بعد أن ناهز عمره الثلاثين عاماً وهو يجرم بحق الأمم والشعوب وملخصها باقتضاب شديد حروب وغزوات أزهقت أرواح الملايين وشردّت عشرات الملايين من أوطانهم وختم عمره «بالحريق العربي» وليس «الربيع العربي» سيئ الصيت أيضاً وما أنتج من فوضى هدامة دمرت بلداناً ومزقت أوطاناً ودكّت بيوتاً على رؤوس أصحابها وتركت دولاً خراباً يباباً ومكنت وحوش «الدواعش» وفروعها الإرهابية من تدمير حضارات التاريخ في بلاد ما بين النهرين وبلاد الشام.
حصاد القطبية الأمريكية خلال ثلاثة عقود بقضها وقضيضها كان مراً كالعلقم بالنسبة لدول عديدة في العالم حيث اتسمت المغامرات العسكرية التي خاضتها الولايات المتحدة في العقدين الأخيرين من الزمن، كسابقاتها، بسلسلة متلاحقة من الويلات والكوارث أدت إلى مقتل مئات الآلاف من البشر وتدمير عدة دول وحسب آخر إحصائية فقد أزهقت الحروب الأمريكية العدوانية الحمقاء أرواح ما لا يقل عن أربعة ملايين وخلفت أكثر من خمسة ملايين مصاب ومعوق وهجّرت وشرّدت ما يزيد على خمسة وعشرين مليوناً عن أوطانهم ناهيك بالخراب والدمار اللذين يحتاجان إلى عقود لإعادة إعمارهما.
ومن العجيب الغريب أن واشنطن ما انفكت تعترف بالخطأ تلو الآخر، وبالفشل تلو الآخر، إلا أنها مع ذلك ماضية في السياسات نفسها وتكرر الحماقات ذاتها مع تعديلات شكلية في إخراجها الدامي والمدمر، فهي عندما لم تعد تستطيع ممارسة الحرب المباشرة وإرسال الجيوش الجرارة لجأت إلى اختراع الفوضى الهدامة واعتمدت ما هو أشد فتكاً من الحروب المباشرة ألا وهي «الحروب بالوكالة» والمخزي لساستها وقادتها ومبادئهم التي طالما تغنّوا بها أن وكلاءها هذه المرة كانوا هم العصابات الإرهابية بل «الدواعش» وحوش هذا العصر، صحيح أنها لم ترسل جنودها، مثلاً، إلى ليبيا في عام 2011 واكتفت بإرسال طائراتها المقاتلة وقاذفاتها وسفنها الحربية وصواريخها المجنحة، لكن النتيجة كانت مدمرة والأوضاع الناجمة عن ذلك كارثية ومفجعة جداً.
والقطبية الأحادية التي تربعت على عرشها واشنطن حمتها من كل مساءلة دولية فكان لا يطولها قانون دولي ولا عرف ولا ميثاق ولا يجرؤ كثير من الدول على مخالفتها ولا يضيرها على أي حال ما يحدث في ساحات الحروب التي تفننت في إشعالها منذ استلامها قيادة العالم، مادامت محصنة، ولا تستطيع أي جهة محاسبتها على ما تقترفه قواتها في غزواتها وغاراتها، لذلك تواصل نهج القوة الغاشمة على الرغم من مرارة هزيمتها في فييتنام وأفغانستان والعراق ودول عديدة في أمريكا اللاتينية.
ومن المضحك حقاً أن يسمح المسؤولون الأمريكيون لأنفسهم أحياناً بأن يكونوا صريحين، بخاصة حين يكتمل مشهد المأساة وتبتعد عنهم أضواء القطبية الأحادية، فيعتلون المنبر ليدلوا بشهاداتهم عن أخطاء الإدارات الأمريكية المتعاقبة وفشل خططها هنا وهناك لكن بطريقة أمريكية دعائية رخيصة لا تجدي نفعاً وكان آخر تصريح من هذا النوع، هو وصف «البنتاغون» سقوط مدينة قندوز في شمال أفغانستان مؤخراً في يد مسلحي حركة «طالبان» بالانتكاسة.
ولم تكن هذه هي المرة الأولى فقد تردد هذا الوصف على ألسنة المسؤولين الأمريكيين عند سقوط مدينة الرمادي في محافظة الأنبار بالعراق بأيدي إرهابيي تنظيم «داعش» في أيار الماضي ورددت وزارة الدفاع الأمريكية حينها عبارات جمعت بين الاعتراف بالفشل وتبريره، حيث قال المتحدث باسم البنتاغون الكولونيل ستيفن وارن: «قلناعلى الدوام إنه ستكون هناك عمليات كر وفر، وانتصارات وانتكاسات وما حصل ليس انتكاسة وإنما هزيمة بكل معنى الكلمة».
والأنكى من ذلك وتزامناً مع انتكاسة قندوز، فقد اعترف أوباما أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بارتكاب أخطاء في ليبيا عام 2011 في الضربات الجوية التي ساهم الـ «ناتو» والولايات المتحدة من خلالها بالدور الأساسي في تدمير وتمزيق الدولة الليبية ولكن ماذا ينفع الاعتراف بعد تدمير دول بأكملها وتمزيق شعوب ومجتمعات بالفتن والاقتتال عاشت مكوناتها طوال تاريخها بوئام وتضامن ولعل انتشار الإرهاب وتمدده تحت سمع وبصر «تحالفات» واشنطن يفضح الارتباط الأمريكي بالتنظيمات الإرهابية وخططها الإجرامية على المستوى العالمي.
وأخيراً انكشفت اللعبة الأمريكية وجاء قرار موسكو بتغيير قواعد الاشتباك وإنهاء الاحتكار الأمريكي في إنشاء تحالفات دولية ليحشر السياسة الأمريكية المراوغة والمخادعة في الزاوية وليدق المسمار الأخير في نعش القطبية الأحادية. وليرسم خطوطاً جديدة لعالم جديد تبرز فيه أقطاب جديدة تصحح الخلل وتعيد التوازن إلى العلاقات الدولية المضطربة منذ أكثر من ثلاثة عقود.
الآن لقد بتنا على عتبة عالم جديد لم يعد بمقدور الإدارة الأمريكية فيه فرض مشيئتها وقرارها وعلى المراهنين والواهمين (بجبروتها وسطوتها التي لا تقهر) والمأخوذين بأن «لا راد لقضائها وإرادتها» أن يراجعوا حساباتهم قبل فوات الأوان بعد أن شارف عصر القطبية الأمريكية الأحادية على الزوال إلى غير رجعة.
tu.saqr@gmail.com