وصف ناظم عيد مدير تحرير جريدة البعث الناطقة باسم حزب البعث خيار زيادة الرواتب بأنه أسوأ الخيارات المطروحة،وقال عيد في افتتاحيته التي عنونها بنفس العنوان,,,قد لا تسعفنا الأوراق المختلطة، بفعل رياح الأزمة، في إنجاز ترتيبٍ حاسم للأولويات المتزاحمة داخل ملف الشأن الداخلي بمنحاه الاقتصادي والاجتماعي.
إلّا أن ثمة احتياجات تفرض نفسها عنوةً أحياناً، وتأبى الانكفاء، تحت اعتبارات أي ظرف مهما كان حالكاً، لاسيما إذا كانت ذات صلة بأساسيات الحياة التقليدية، حيث الغايات تبرر الوسائل، وهنا تكمن حساسية أعقد الملفات التي تعتري يوميات حكومتنا المسبوقة بالاستحقاقات دوماً ولعلها معذورة في هذه الأيام العصيبة.
وسنقف عند الحيثية الأبرز وربما “المفتاحية” في علاقة حكومة ومواطن، وهي زيادة الرواتب، الهاجس المشترك بين الطرفين، والذي اتخذ تماماً صفة الدائن والمدين في نظرتهما له، لكن لا بد من بعض الهدوء ووقفة متروية لتصحيح التشوّه في النظرة إلى الموضوع، والذي لا يقل بتاتاً عن التشوّه الموصوف الذي يعتري بنية الرواتب والأجور لدينا.
إذ ليست زيادة الرواتب والأجور المسار الوحيد المفضي إلى النتائج الإيجابية المنتظرة تحت العنوان “الطويل العريض” الذي طالما تكرر في التصريحات التطمينية على ألسنة رجالات حكومتنا وسابقاتها بعبارة “تحسين المستوى المعيشي للمواطن” لدرجةٍ يمكن معها الجزم – نظرياً– بأنه بند مقيم على رأس تلك الطاولة البيضوية التي تلتئم عليها اجتماعات الفريق الحكومي أسبوعياً.
بل أكثر من ذلك سنتوخى مزيداً من الجرأة في طرحنا لنؤكد أن خيار معالجة يوميات المواطن عبر بند الرواتب، هو أسوأ الخيارات، وغالباً ما ينتج مفاعيل عكسية تحدث “صدعاً” في سوقي السلع والخدمات، يكون صداه أكبر في تفاصيل يوميات من لا رواتب ولا أجور لهم، وقد رأينا واستنتجنا أن الزيادات السابقة لم ترض لا ذوي الرواتب ولا “البلا راتب” ولا الخزينة العامة، رغم ذلك تبقى شائعة “الزيادة” منتعشة بيننا والأكثر قابلية للرواج من متعلقات أدق المسائل المصيرية في حياة مواطن وبلد.
فقد تطول قائمة الخيارات البديلة أمام الجادين في البحث عنها، وكلها خيارات أشمل وأكثر استدامةً من مجرد زيادة على الراتب، بل بعضها ينتهي إلى العمق التنموي، وهو الهدف الأسمى أمام أي حكومة تحظى بميزة الأفق البعيد.
ويدور الخيار التقليدي والبدهي حول ضبط الأسواق والإقلاع عن تجربة تحرير الأسعار التي أحدثت خللاً اجتماعياً بأبعاد اقتصادية، فالمعالجة على هذا الخط أفضل وأوفر وأكثر استدامة وجدوى من استسهال المهام باللجوء إلى تحريك معدلات الرواتب.
أما الأهم من الزيادة والأولى بالمعالجة فهو إعادة النظر بنسب الاقتطاع الضريبي، رغم إدراكنا لأهمية عائدات ضريبة دخل الأجور على الخزينة العامة، إلّا أننا نعلم أن ما يدفعه الموظف في سنة يزيد بأضعاف عما يسدده صاحب مهنة أو حرفة من مكلفي ضريبة الدخل المقطوع، فلنعالج آليات التكليف والتحصيل من أصحاب المهن والحرف ونخفف العبء عن شريحة محدودي الدخل، الذين لا يملكون مهارات التهرب، وربما لم يفكروا بها لأن ضرائبهم تُقتطع سلفاً، وحسب الحكومة ممثلة بوزارة المالية أن تنجح في معالجة أوضاع المكلفين بضريبة الأرباح الحقيقية، لاسيما من كبار المكلفين وبعضهم من كبار المتهربين، لتستغني تماماً عن اقتطاعاتها من أجور العاملين.
كما أنه بات من الملح إعادة النظر بمطارح فرض الرسوم عامةً، وتقسيمها إلى شرائح من شأنها إعفاء أصحاب الدخل الثابت أو العاطلين عن العمل، وزيادة نسب التكليف لأصحاب الأعمال “قطاع الصادرات، الصناعة، التجارة، السياحة خصوصاً المنشآت ذات التصنيف العالي” ولو نجحنا في ذلك لن يكون هناك تراجع في إيرادات وزارة المالية، بل على الأرجح ستزيد، وعندها سيكون دافعو الرسوم أصحاب متواليات الأرباح السريعة وليس أصحاب الدخول المحدودة، وستتقلص المطارح، وتُختصر آليات الجباية والتحويل والمطابقة.
في المحصلة ها نحن نجد أنفسنا نتحدّث عن جزء كبير من فقرات مشروع مفترض للإصلاح المالي، لو نجحنا به لكانت معظم مشاكلنا المالية من صفحات الماضي، بل سنحظى بعائدات تتيح توجهاً جديداً في التعاطي مع شبكات الحماية الاجتماعية ومظلات رعاية من يستحقون الرعاية، وإن رغبنا بزيادات على الرواتب ستكون وعودنا نافذة وليس مجرد وعود.