السبت 2014-02-22 06:36:34 |
صحافة وإعلام |
الحالة العربية وابن المقفع |
الدكتور المهندس محمد غسَّان طيارة ظهر أمامي فجأة ابن المقفع غاضباً ويتلعثم وهو يروي قصته الجديدة بلسان البشر وهو اعتاد على استخدام الحيوانات للتعبير عن الحكمة فيما يرويه. لم اتمكن من تخفيف تدفق عباراته وكأنه استيقظ من حلمٍ مفزوع من واقعٍ رآه ويريد مني الاستماع إليه حتى لا تضيع منه بعض التفاصيل: يُحكى أنه في قديم الزمان, أمتلك رجل قوي وعادل أرضاً واسعة وشاسعة حَوَّلَها مع أهله إلى جنة خالدة طيبة، وكان كريماً في تعامله مع جيرانه فقدم لهم أطيب خيرات جنته وساعدهم في مِحَنِهم ورعى شؤونهم ولم يفكر يوماً بالاعتداء عليهم على الرغم من قوته وضعفهم، وتمر السنون فيمرض هذا القوي ويضْعف ويشيخ فتتنازع غرائز الشر بعض أبنائه فيتقاسمون الأرض بينهم ويتعادون مع بعضهم ويسامرون الجواري والغلمان ويعاقرون الخمور والميسر، فتنخر الأمراض أجسامهم وتضعف أبصارهم وبصيرتهم ويصبحوا شيوخاً وهم في ريعان شبابهم. طَمِعَ بهم جيرانهم فهجموا على أرضهم الطيبة الجنة وتوزعوها فيما بينهم متناسين الخيرات والمساعدات التي قدمها لهم الرجل القوى والعادل. مزَّق الجيران الدخلاء الأرض الطيبة إلى أجزاء متنافرة وسلموا كلَ جزءٍ منها إلى جابٍ (تحصلدار) من أهلها مرتبطٍ بهم ليجمع أموال الضعفاء من خيرات الأرض ويوردها إلى خزائنهم، فانفرط عقد الأرض الطيبة بين الدخلاء فتقسَّمت إلى أجزاء غير متساوية بحسب ما يملك الجار الدخيل المعتدي من جبروتٍ وقوة. عانى الأهل من الدخلاء المعتدين وَجُبَاتِهم المكلفين بشؤونهم، فنهضوا بقوة وعزيمة رجلٍ واحدٍ يدافعون عن أملاكهم وأرزاقهم وعن روابطهم الأسرية التي قطَّعها الجيران المعتدون الدخلاء فتمكنوا من إحداث زلزال تحت أقدام الجيران الغازين والمعتدين ففروا هاربين إلى بلادهم، ولكن لم يتمكن الأهل في نهضتهم من إعادة تجميع الأرض الطيبة لأن جباة الدخلاء استغلوا نهوض الأهل وقوتهم وأظهروا لهم كل ودٍ ومحبة فركبوا نهضتهم لإبقاء ملكية الأرض الطيبة مجزأة الأوصال وليتابعوا استثمار خيرات الأجزاء وينفقونها على ملذاتهم في أراضي الدخلاء، الذين وعدوهم بتأمين الحماية لهم من أهاليهم بشرط أن يستمروا بنهب خيرات الأرض الطيبة وتوريدها إلى خزائن الجيران الدخلاء وأن يستمر ولائهم لتجزئة الأرض الطيبة وعدم إعادة تجميع الأوصال المتقطعة. لقد تدرب جباة الدخلاء على التغني بالتاريخ الذي صنعه الأهالي في نهضتهم ليهربوا من تطوير الحاضر نحو مستقبل توحيد الأرض، وتعود الجنة تهدي الخير للعالمين، ولتأكيد سيطرة الدخلاء التامة على أجزاء الأرض الطيبة ولتسهيل إمكانية التدخل بشؤون كل جزءٍ من الأرض الطيبة إذا ما شعروا بأن الأهالي قد ينتصرون في معركتهم من أجل تجميع أراضيهم ثانية، عمد الدخلاء إلى إعطاء إبليس اللعين وأسرته وأعوانه أجمل بقعة من الأرض الطيبة ليقتل أهلها ويشردهم وينهب أموال وأرزاق من فيها من أهلها ويسكنها مع أبنائه من الأبالسة، وهكذا تعرَّف الأهالي على إبليس اللعين وأسرته عنوان الشر في الأرض الطيبة. مرت على هذه الأرض الطيبة أعاصير من التغييرات حتى تكرم الدخلاء بإصدار قرارات من مجلس الشر يُثَبِّت تقسيم الأرض الطيبة إلى 22 جزءٍ يسيطر على معظم أجزائها أشباه الرجال الجباة المرتبطون بالدخلاء رباط العبد بسيده ويحاولون أن يرتبط بهم أهلهم بقوة السياط ليثبتوا رجولتهم المهدورة أمام الدخلاء. وحتى يتسنى للجيران الدخلاء من تنفيذ أطماعهم على أجزاء الأرض الطيبة المنقسمة على بعضها أمروا أشباه الرجال لتشكيل مجلس لتَجمُّع المالكين يتحكم بخيرات الأرض الطيبة ويتصدق على الأهالي بفتات موائدهم، وثَبَتوا حدود كل جزءٍ من الأرض الطيبة بقرارات أصدرها مجلس الشر وفق مصالح الدخلاء. أصدر مجلس تجمُع المالكين قرارات عديدة تدعو في ظاهرها إلى تجميع أجزاء الأرض الطيبة, وفي باطنها ومضمونها تكرِّس تجزئة الأرض الطيبة, حتى تكونت قناعة كاملة لدى الأهالي بأن اجتماعات مجلس تجمُع المالكين مخْيبة لآمالهم وغير قادرة على الوقوف في وجه شرور إبليس اللعين، لأن أعضاء المجلس يخشونه ويخشون من قوى الشر المسيطرة على مجلس الشر، ويدينون بالولاء لها خوفاً على مواقعهم فوق رقاب الأهالي. وفي غفلة من الزمن يتسلل لصٌ "شرِّيرٌ " ويتعاقد مع إبليس اللعين عنوان الشر على استنفاذ خيرات الأرض الطيبة، ويعمل على تحويل أشباه الرجال من مالكي أوصال الأرض المتقطعة إلى مناصرين له سراً وعلناً ويناصبون أهاليهم العداء في السر ويساعدونه في سرقة خيرات الأرض الطيبة علناً. توضَّحت الصورة في الأرض الطيبة على الشكل الآتي: ـــ 22 جزءاً من الأرض الطيبة يسيطر على مقدراتها أشباه الرجال الجباة المتحالفون مع اللص الشرير وأعوانه يجتمعون في مجلس تجمُّع المالكين، وعندما يتمكن أهالي بعض الأجزاء من الأرض الطيبة من إحكام سيطرتهم على خيرات أرضهم, تتعالى أصوات اللص الشرير وإبليس اللعين بأن هؤلاء الأهالي أعداء لخيرات الأرض الطيبة وأشرار يجب القضاء عليهم, وباسم الحفاظ على خيرات الأرض يتعاون ابليس اللعين مع جباة الدخلاء وبإشراف اللص الشرير للقضاء على سيطرة الأهالي. ـــ أجمل جزءٍ من الأرض الطيبة يمتلكها إبليس اللعين عنوان الشر يعيث فيها فساداً ويرهب تجمُّع المالكين على الرغم من المساحة الواسعة والخيرات الوفيرة التي يمتلكها هذا التجمُّع بعد أن أصبح من المحرمات على قوى التجمع الاستفادة من الخيرات في صد إبليس اللعين واللص الشرير. ـــ اللص الشرير الذي يتحكم في خيرات تجمُّع المالكين لينفقها على شروره وفي دعم إمكانيات إبليس الشيطان. وهكذا تحول معظم أهالي الأرض الطيبة إلى عمال يتولى أمرهم رؤساء (هم نفسهم جباة الجيران الدخلاء) يخدمون اللص الشرير وإبليس اللعين في وعيهم وحتى في أحلامهم. يدفع اللص الشرير أجور رؤساء العمال بسخاء من حساب جمعه من الأرض الطيبة ووضعه تحت سيطرته وتصرفه ولا يسمح لهم في تقديم العون لأهلهم الذين يعيشون على فتات موائد إبليس اللعين، وإذا تكرم هذا اللص وسمح لهم في تحويل بعض الأموال إلى أصحاب الأرض المقتطعة ملكاً لإبليس اللعين فيجب أن تكون من حساب العمال التعساء ووفق ما يراه ولن يسمح باستخدامها للإضرار في أطماعه وأطماع شريكه إبليس اللعين. وعندما يحتج الأهالي على تصرف رؤساء العمال رؤسائهم، يجمع اللص الشرير مجلس الشرور لديه ليصدر قراراً غامضاً ضد اللص الشرير يعتبره رؤساء العمال نصراً مبيناً لهم يخدرون فيه العمال فتخمد الاعتراضات والاحتجاجات، وإذا استمر العمال من أهالي الأرض الطيبة في الاحتجاج أوكل اللص الشرير إلى رؤسائهم مهمة قمعهم، وإذا فشلوا في مهمتهم فيصب هذا اللص نيرانه مباشرة عليهم ليقتل الأطفال والنساء والشيوخ حتى يستكينوا ويستمر هو في سرقاته. وعلى مدار السنوات الطويلة أصدر مجلس الشر قرارات كثيرة غامضة بوحيٍ وتأييدٍ من اللص الشرير يوافق عليها مجلس تجمُّع المالكين ولا يوافق عليه إبليس اللعين عمداً ومتعمداً وبمباركة من اللص الشرير, لأنه لا حدود لأطماعه, فيصفق له اللص الشرير فرحاً ويرقص مع الجباة أو رؤساء العمال في حلبة الجنادرية بسيوف عربية. وآخر قرار صدر عن مجلس الشر تضمن الآتي: ـــ يقوم إبليس اللعين بمنح الأهالي ألبسة رثة من بعض فَضْلاتِه التي رماها في مزبلة التاريخ. ـــ رحب معظم أعضاء تجمُع المالكين بهذا العطاء المنحة باعتباره بادرة فريدة في تاريخ عذاب الأهالي، إلا أن الأهالي رفضوا هذا القرار فهذه الألبسة البالية لا تستر حتى عوراتهم ولا ترد عنهم حر الصيف وبرد الشتاء وتقضي على كرامتهم. اختفى ابن المقفع وترك لي مهمة تعريف القراء بالمعاني التي وردت في حكايته: ـــ الرجل القوي والعادل: الدولة العربية في نهضتها والتي لم تعتدِ على جيرانها الأوربيين الذين كانوا غارقين في جهلهم وصراعاتهم، وقد قدمت لهم الدولة العربية من خيراتها كل العلم والمعرفة. ـــ مَرَضْ الرجل القوي: عصر الانحطاط العربي الذي أدى إلى تقسيم الدولة العربية إلى دويلات متناحرة ومتفرقة. ـ الجيران المعتدون: الدول الأوروبية التي استعمرت البلاد العربية وقسمتها إلى دويلات وعينت على كل دويلة والياً من عملائها, كجباة أو كرؤساء عمال. ـــ الجيران الدخلاء: المملكة المتحدة وأعوانها وقد أعطت وعد بلفور للصهاينة بأرض فلسطين المقدسة الطاهرة. ـــ إبليس اللعين: الدولة الصهيونية الغازية والمغتصبة لأرض فلسطين. ـــ اللص الشرير: الولايات المتحدة الأميركية بالتعاون مع المملكة المتحدة. ـــ مجلس الشر: مجلس الأمن. ـــ مجلس تجمُع المالكين: مجلس الجامعة العربية، ومعظم أعضائه يوالون اللص الشرير ويفتخرون بالصداقة التي تربط بينهم وهي صداقة التابع للمتبوع. ـــ 22 جزءاً من الأرض الطيبة: الدول العربية في وضعها الحالي مجزأة مغلوبة على أمرها. الألبسة الرثة: ما يريد أن يتنازل عنه اللص الشرير لقيام أرض طيبة لشعبٍ فلسطين غير قادرة على الصمود في وجه أطماع إبليس اللعين فيها ولا يسمح للمشردين من أهلها العودة إليها. ركضت في الاتجاه الذي هرب منه ابن المقفع لأسأله عن الربيع العربي, فأجاب متابعاً ركضه عن أي ربيع عربي تتحدث فأنا لم اتعود على هذا البرد السيبيري الشديد وسبب هروبي يعود لخشيتي من أن يتجمد عقلي كما تجمدت عقولكم وعقول جباة اللص الشرير. التفت ابن المقفع نحوي وقال: انتظر لقد وجدتها, يهدف الربيع العربي إلى تدمير الإسلام والعروبة ولهذا يمكن أن تسميه قنبلة جرثومية لقتلكم والتكبير عليكم. وتابع قل للسوريين تمسكوا بأرضكم وسيظهر الربيع العربي على أيديكم وفيه بداية النهاية لإبليس اللعين واللص الشرير وتجمع المالكين ومجلس الشر. اختفى ابن المقفع في زواريب حمص القديمة لأستيقظ على أصوات رصاص القنص من نفس الاتجاه الذي ركض إليه ابن المقفع. سحبت اللحاف فوق رأسي ثانية عساني استطيع العودة إلى حلمي وأشهاد السعادة على وجه الناس بعودة العروبة والإسلام التي حدثني عنهما ابن المقفع. انتظرت طويلاً وما زلت أنتظر, ولكن لم يظهر ابن المقفع ثانية. هل أصابته رصاصات القنص فقتلوه كما قتلوا غيره من تاريخ حلب وحمص وإدلب....
دمشق في 22 شباط 2014
|
|