ناهض حتر
أضاء لي الصناعي الشاب فارس الشهابي، رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية، جوانب كنّا قد أغفلناها من المشهد السوري؛ فالشهابي ــــ الذي تابعتُ أحاديثه التلفزيونية الجريئة ــــ يمثّل، بنفسه، برهاناً على وجود رأسمالية وطنية في سوريا.
الشهابي، المشغول بمقاضاة الحكومة التركية على قيامها بالنهب المنظّم للمصانع الحلبية، يحاكم، من موقع وطني، النظام السوري على إخفاقه المزمن في فهم خصوصية حلب وتجربتها. حلب هي أهمّ مدينة صناعية في العالم العربي كله؛ إذ توافرت لها عناصر النهضة التالية: تراث حرفي وتقاليد انتاجية وبرجوازية صناعية وعمالة ماهرة عالية الانتاجية وبيئة مدنيّة. وكل ذلك ليس متوافراً في مدينة عربية أخرى.
لكن حلب التي كانت ـــ ولا تزال قادرة في المستقبل ـــ على أن تكون، كمدينة وكنموذج، رافعة تحديث سوريا ودمقرطتها، عانت الأمرّين على أيدي جميع الأطراف؛ فالنظام أهملها طويلا، إدارةً وبنى تحتية، والعناصر النيوليبرالية التي أمسكت بمفاصل القرار الاقتصادي، خلال العقد الأخير، اهتمت بتضخيم القطاع العقاري المالي على حساب الصناعة، وأولوية التحالفات السياسية فتحت السوق الحلبي والسوري أمام المنافسة العدائية التركية في اتفاقيات تبادل تجاري مصممة لصالح الأتراك الذين قرروا تدمير الصناعة الحلبية، فلما عجزوا عن ذلك بالمنافسة، سلّطوا عصابات الإرهابيين على مصانعها، نهباً وتدميراً. أما الدولة التي تقاتل الإرهاب، فلم تنتبه إلى الأهمية الاستراتيجية لحماية 44 منطقة صناعية في المدينة تضم 12000 منشأة كبيرة ومتوسطة وصغيرة، ولم تحصّنها عسكرياً، فوقعت جميعها في قبضة الإرهابيين واللصوص.
يكشف الشهابي من موقعه، كبرجوازي وطني، ان تجميد القطاع العام الصناعي ومنعه من تطوير قدراته، ووضع العراقيل أمام القطاع الصناعي الخاص ـــ بما في ذلك التعقيدات الإدارية والرشى ـــ وغياب الاستراتيجية لدعم الصناعات المتوسطة والصغيرة، كلها عوامل أنتجت بطالة معممة متراكمة، هي الأساس في قدرة الاستخبارات التركية والقطرية على تكوين جيش المسلحين والإرهابيين والعصابات في الريف السوري، بما في ذلك ريف حلب.
شهوة الأتراك لتحطيم حلب، بصناعتها وتراثها وأوابدها التاريخية، تصدر، أساساً، عن عداء للنموذج المنافس القادر على تحويل الجمهورية العربية السورية إلى سدّ إقليمي في مواجهة العثمنة الجديدة. والآن، مع الاستخدام الإجرامي للسلاح الكيماوي ضد أهالي حلب، تظهر الميول التركية للقيام بإبادة جماعية لحلب التي أبت وتأبى الخضوع للتخلف والهيمنة الخارجية.
الشهابي، برغم كل ذلك، متيقن من أن حلب والصناعة السورية ستنهضان من جديد، «ليس بتمويل خارجي»؛ فالأخير لا يبني الصناعة، بل يفتح السوق للهيمنة التجارية الأجنبية، لكن بتمويل ذاتي وبإرادة الصناعيين الذين لن يجدوا، في أي مكان آخر، البيئة الملائمة كما في حلب. وحلب، في النهاية، هي نموذج المستقبل لسوريا كلها، وسوريا الجديدة الناجية والمنتصرة والمأمولة، ستكون نموذجاً للعرب.
نصل الآن إلى جوهر إشكالية «الربيع العربي»؛ فالربيع الديموقراطي الحداثي الحقيقي هو ربيع الكادحين، فلاحين وعمالا وبرجوازية وطنية، ربيع العاملين المنتجين والمثقفين، أما جماهير العاطلين من العمل، المفقَرين، المهمّشين، فلا يصنعون سوى الشتاء المظلم الظلامي للفوضى والتحلّل الاجتماعي والثقافي والتعصّب والإرهاب والخضوع الموضوعي لمخططات أعداء الأمة. ولذلك، فإن المهمة الرقم واحداً على جدول الأعمال العربي، اليوم، هي مهمة التصنيع؛ فالصناعة هي، وحدها، القادرة على استيعاب فائض قوة العمل، وعلى تحويلها إلى ثروة، وتحديث المجتمع وتنوير أفراده.
على هذا يحضرني كتاب صغير مُلهَم للدكتور ألبر داغر، عنوانه «من أجل سياسة تنموية عربية: منطلقات مغايرة للطرح النيوليبرالي»، أظن أن رجلاً مثل فارس الشهابي ــــ وأعضاء النخبة الصناعية السورية ــــ هم الأجدر بقراءته من أجل خطة اليوم التالي في سوريا.
يستلهم داغر التجربة الآسيوية الناجحة في اختراق عقبات التصنيع، ليس فقط على المستوى العام، بل أيضاً في التفاصيل في أربعة نصوص تقع في صلب تكوين استراتيجية نهضوية جديدة، ينبغي التوافق عليها بين العناصر الوطنية والتقدمية في بلادنا.
وسأركّز، هنا، على ثلاث أفكار أساسية يطرحها داغر، هي الآتية: (1) التنمية، من حيث الجوهر، هي التصنيع، لا تصنيع السلع الاستهلاكية والمعمرة فحسب، بل أيضاً السلع «الترسملية»، أي تصنيع وسائل الإنتاج، والسيطرة المحلية على خطوط الإنتاج في إطار اقتصاد تعاضدي، (2) يحتاج التصنيع إلى تدخل كثيف من قبل الدولة التي يجب عليها أن تؤسس سياسة تمويلية تعتمد «تأميم مخاطر الاستثمار الصناعي» وتأمين سياق عام للتمرين والتجريب والتأهيل، والدعم المشروط لتنافسية المؤسسات، (3) لا نهضة صناعية من دون الحماية الجمركية، في إطار التفسير المرن، السيادي والذكي في آن واحد، للاتفاقيات الدولية. (ولنا عودة).