سيريانديز
لأكثر من ربع ساعة، استمر الصديق الذي كنا برفقته بالدوران والالتفاف في ساحة المرجة، آملاً العثور على موقف يركن فيه سيارته لفترة وجيزة بغية شراء بعض الأغراض والحاجات، لكن دون جدوى، فالازدحام شديد، ومعظم السيارات المتوقفة في تلك المنطقة لا تتزحزح، حيث اصطفت على أكثر من نسق وطريقة ضاعت معها ملامح الهندسة، ومعالم التنظيم المروري، والمظهر الجمالي العام، لا سيارة تغادر منطقة الازدحام، ولا صاحب موقف يفرط بموقفه الاستثنائي، لينتهي بحث صديقنا بابتعاده تدريجياً عن المركز المقصود مسافة تجاوزت ثلاثة كيلومترات قبل أن يركن سيارته مطمئناً بموقف مأجور، ثم يتوجه إلى السوق سيراً على الأقدام!.
ومن المؤكد أن حال ذلك الصديق اليوم هو حال الكثير من أصحاب السيارات، فالظفر بأماكن توقف في قلب العاصمة دمشق في أوقات الذروة يمثّل مشكلة ومعاناة كبرى يحجم معها معظم أصحاب السيارات عن استخدامها في ظل قلة المواقف المخصصة، وعدم وجود مرائب كافية لاستيعاب أعداد السيارات الكثيرة، في حين يغامر آخرون بطرق عشوائية لركن سياراتهم متسببين بفوضى مرورية، وازدحام شديد، ومشكلة قديمة حديثة ربما كنا بغنى عنها لو توفرت المرائب والمواقف كما ينبغي، فأين الحلول؟! وما هي السبل التي ننتظرها؟!.
أكثر من حل
ربما تكون الأمثلة والمقارنات التي سنوردها مجحفة قليلاً، لكنها تبدو ضرورية، الاستعراض بداية حين نتحدث عن أفكار وحلول مطلوبة، فالدول المتقدمة سبقتنا بمراحل، وابتكرت مواقف سيارات بأصغر المساحات، وبأكثر الأماكن ازدحاماً، وعملت على استثمار ذكي للأبنية حتى الصغير منها لتحويله إلى مرائب حديثة ومجهزة بكل الشروط المطلوبة والضرورية لتخفيف الازدحام عن مدنهم، واستيعاب سياراتها، في طوكيو مثلاً، تلك العاصمة التي تتصدر قائمة المدن الأكثر اكتظاظاً في العالم بحسب الأمم المتحدة، والتي يزيد عدد سكانها عن الـ 37 مليون نسمة، تبدو الأفكار المشاهدة والمستعرضة من كوكب آخر، فكل شيء هناك يمكن ركنه في مواقف، حتى الدراجات الهوائية لها أماكنها ومرائبها الخاصة، والجميل أيضاً أن تشاهد مقاطع فيديو لمواقف سيارات، المدخل إليها بحجم سيارة واحدة فقط، “لا يتجاوز ثلاثة أمتار فقط”، بحيث تدخل السيارة من جانب، وتخرج من الجانب الآخر تجنباً للالتفاف وأخذ مساحات إضافية، وفي الداخل يمكن استيعاب أعداد كبيرة من السيارات، أما في دول أوروبية أخرى فالكثير منا شاهد تلك المرائب الذكية ذات السعات الهائلة للسيارات، والتي تتوزع فيها السيارات بشكل آلي، وتمنح أرقاماً، وفي أوقات محددة دون أي إرباك في عمليات الركن والاصطفاف، وحتى بحلول حالمة ومنتظرة يمكن أن نوعد بها في مرحلة إعادة الإعمار، تبدو حلولنا الحالية كثيرة ومتعددة وأكثر واقعية، فلا مشكلة عند بعض أصحاب السيارات بدفع إكراميات، وتخصيص مبالغ، لعامل، أو صاحب محل، أو شرطي في بعض الأحيان لحجز موقف في مكان ما من العاصمة دمشق، في حين يفضّل البعض التوجه باكراً قدر الإمكان للعثور على أماكن توقف، وفي الوقت الذي يحظى فيه بعض الموظفين الحكوميين بمواقف سيارات خاصة، لا يجد آخرون بديلاً عن الأرصفة للتوقف والاصطفاف، مشاركين المارة حقوقهم، ولا تغيب عن كل تلك الحالات الشكاوى المتكررة التي نسمعها من بعض أصحاب السيارات عن الضرر الذي يصيب سياراتهم عند ركنها في أماكن توقف عشوائية!.
مشاريع متوقفة
لا يخفي هيثم ميداني، عضو المكتب التنفيذي لقطاع المواصلات والنقل في محافظة دمشق، الضرورة الملحة اليوم لمرائب طابقية في المدينة، وضرورة بحث وتنفيذ حلول جدية لمشاكل التوقف، وركن السيارات في العاصمة، فيبدأ في حديثه بتقديم صورة بانورامية عن مدينة دمشق التي لا تزيد مساحتها عن عشرة آلاف هكتار، من بينها ثلاثة آلاف هكتار “جبال”، و7000 هكتار موزعة بين مناطق سكنية، وأسواق، وشوارع، وما يلزم المدينة من متطلبات الحياة، وهذا الأمر خلق كثافة سكانية تطورت لنسب عالية، خاصة فترة الأحداث والحرب، وهو ما خلق أيضاً كثافة عالية من السيارات والمركبات، يقول ميداني: قبل الأحداث كان عدد السيارات المسجلة لدينا حوالي 470 ألف سيارة، ونتيجة الأحداث، وورود سيارات ومركبات من المحافظات الأخرى إلى المدينة، ارتفع عدد السكان، وارتفع أيضاً عدد السيارات ليصل إلى مليون تقريباً، ويكمل: قبل الأحداث كانت لدينا مشاريع وأفكار حول إقامة مرائب من أجل ضبط وقوف هذه السيارات وتنظيمها، وكانت ضمن هذه المشاريع أماكن توقف تحت الحدائق، إلا أن معظم المشاريع توقفت نتيجة الحرب والأحداث، وتضاعفت المشكلة!.
مشاكل لوجستية
ميداني أكمل: كنا نعرف سابقاً، أو اعتدنا أن السيارات تتوقف فقط في الجانب الأيمن للشارع، لكننا اليوم يمكن أن نجدها متوقفة في أي مكان أو طرف، وهذا الأمر يستدعي بالضرورة إنشاء مرائب طابقية في مدينة دمشق، وهنا واجهتنا مشاكل لوجستية أبرزها ضيق المساحات، وقلتها في المدينة، وقلنا إنه لاعتبارات كثيرة توقفت مشاريع تنفيذ المرائب تحت الحدائق، واليوم نبحث عن عقارات وأراض تعود ملكيتها إما للجهات العامة، أو لجهات خاصة، علماً أننا استطعنا في دمشق تنفيذ مرآب طابقي هو مرآب النعنع، أربعة طوابق، وتحت الأرض هناك طابقان، واليوم المولات التي نمنحها تراخيص نلزمها بإنشاء مرآب لاستيعاب سيارات الزوار، وعن تنفيذ مرائب جديدة يفضّل ميداني أن توكل هذه المهمة للجهات العامة من ناحية الإشراف والتنظيم حتى لا يكون هناك ابتزاز، أو تحكم من المالكين، إلا أن الإمكانيات أحياناً قد تكون ضئيلة أو مركزة نحو أمور أخرى، وبالتالي لا مانع من دور القطاع الخاص وتعاونه في هذا المجال، وبالتأكيد ستجري عليه القرارات التي يصدرها مجلس المحافظة، إن كان بالتعرفة، أو العدد، أو غيرهما، وبالتالي الموضوع الآن أصبح حاجة ملحة لمدينة دمشق بأن تحدث هذه المشاريع، وتُنفذ أفكار جديدة، ويمكن الاستفادة من تجارب الدول الصديقة التي لديها أفكار واعدة ومميزة في هذا المجال، ولكن
إلى الآن لا يوجد من تقدم لمشاريع من هذا النوع، علماً أنها ضرورية ونافعة وذات جدوى اقتصادية!.
أفكار تنظيمية
في المقابل يؤكد مدير هندسة المرور والنقل في محافظة دمشق عبد الله عبود أن المشكلة الأساسية عند الحديث عن مرائب في مدينة دمشق هي قلة توفر الأبنية المخصصة لها، ويقول: المرائب الموجودة في المدينة نوعان، منها ما هو سطحي، ومنها الطابقي، ابتداء من الشرق مرآب “الصوفانية”، و”البحصة”، و”عرنوس”، ومرآب “ميموزا”، ومرآب خلف سانا، ومرآب “النصر”، والمرائب الطابقية كـ “مرآب الفردوس” مواجه فندق الشام، ومرآب “النعنع” في منطقة الحلبوني، ومرآب “المواصلات” بالحمراء، ويكمل: مرآب النعنع مستثمر من قبل مستثمر خاص، أما باقي المرائب فتديرها دائرة خاصة ضمن المديرية، أما الدخول إليها فيكون بطريقتين: إما بدخول ساعي أقل من ست ساعات، أو بموجب اشتراك شهري أو سنوي، ويضيف عبود: الموضوع الهام الذي درسه المخطط التنظيمي الجديد لمدينة دمشق اليوم لحل مشكلة المواصلات وازدحام السيارات في المدينة هو تعزيز دور المشاة، واستخدام الدراجات الهوائية والكهربائية، وإذا قلنا إننا نريد السير بالمصور التنظيمي الجديد لمدينة دمشق الذي لم يصدر، والتفكير بطرق خاصة بالدراجات والمشاة، فيجب توفير شيئين أساسيين هما تصعيب دخول الآليات لمدينة دمشق وتسهيل الخروج منها، وأيضاً يجب تعزيز موضوع النقل العام ضمن مركز المدينة،
وهذا الموضوع يتبعه موضوع المرائب، فعند توفير النقاط التالية تكون الحاجة للمرائب قليلة بمركز المدينة لعدم الاعتماد على استقدام السيارة الخاصة، والاعتماد على الباص، أو النقل الجماعي، ولتحقيق هذا الموضوع يجب توفير نقل آمن ومريح، وتوفير الوقت والجهد، وبالتالي يتم تقسيم المدينة إلى حلقات تكون فيها المرائب الموجودة ضمن المركز الأعلى تكلفة، وتتناقص باتجاه المحيط، وهذا أيضاً يستوجب بناء مرائب طابقية جديدة عادية أو ذكية.
مرائب وأفكار جديدة
عبود أكمل بأن هناك مجموعة نقاط ضمن المخطط التنظيمي يمكن الإشارة إليها، وهي متعلقة بالمرائب الطابقية الجديدة التي يمكن إنشاؤها، منها مرآب طابقي في الزبلطاني بجانب سوق الهال الجديد، وهناك مرآب بجانب وردة مسار في المعرض القديم، وهناك مراكز تبادلية هي تبادل بين خطوط النقل، وتحتوي أيضاً على مرائب السيارات، وهي بجانب مراكز الانطلاق، وفي أماكن التقاء خطوط السير المختلفة، مع محاولتنا قدر الإمكان الابتعاد عن مركز المدينة لتجنب الازدحام، وهذه الدراسة يمكن من خلالها أن تذهب لأية نقطة في المدينة باستخدام وسيلتي نقل على حد أكثر، ويضيف عبود: المعروف أن المرائب عبارة عن نقطة جذب للسيارات في المكان الذي تكون موجودة فيه، والدخول لها أو الخروج، فتعزيزها ضمن المدينة ليس حلاً، والمؤكد أنه لو توفرت وسيلة نقل تقل الناس بطريقة محترمة ضمن المدينة فلا داعي لوجود أو استخدام السيارات الخاصة، ويطرح عبود أفكاراً أخرى يمكن أن تحظى باهتمام لحل مشكلة النقل والمواصلات، منها التشاركية بالسيارة الواحدة على سبيل المثال، ويقول: كنا نسير بخطا كبيرة جداً، لكن الأزمة أوقفت كل شيء!.
تخفيف ضغط
من ناحية أخرى يؤكد عبود بأن وجود المخططات التنظيمية الجديدة مثل الـ 66 و101، و102، و103 من شأنه أن يخفف الضغط بشكل كبير عن المدينة، فنحن ننقل بشكل تلقائي معظم النشاطات التجارية، والتعليمية، وغيرها إلى تلك المناطق، بما فيها النقل، وبالتالي فأنت تخفف ضغطاً كبيراً عن مركز المدينة، والملاحظ أن تلك المخططات التنظيمية راعت موضوع المرائب تحت الأرض، ونعمل على ألا يكون هناك وقوف للسيارات على سطح الأرض بشكل نهائي، وهناك أماكن مخصصة لها تحت الأبنية، أو المجمعات التجارية، أو الحدائق، أو غيرها، وبالتالي هناك أمور تنظيمية تراعى فيها هذه النواحي منذ البداية، وهناك تراكمات قديمة تستوجب الحل،
وللأسف لا يمكن معالجة موضوع مركز المدينة لاعتبارات عديدة، فمثلاً لو تم العمل على بناء مرآب في منطقة فيكتوريا، كيف سندخل السيارات إليه، وكيف ستخرج؟!.. ويطرح عبود أفكاراً أخرى يمكن اعتمادها كتنظيم عمل المواقف المأجورة، وضبطها بطريقة أكثر تنظيماً، فالمواقف المأجورة محصورة ضمن المدينة بـ 4000 موقف تقريباً، وهي ليست في المدينة بأكملها، لكن نشرها في المدينة يمكن أن يخفف بشكل كبير من مشكلة الازدحام، بحيث تكون المواقف في الأماكن المزدحمة محددة بساعات قليلة بدلاً من أن تكون بست ساعات مثلاً، تكون بساعتين أو ساعة، وبالتالي يتضاعف عدد السيارات التي يمكنها الاستفادة من تلك المواقف، خاصة في مركز المدينة، ويخف الضغط بشكل كبير، وتزداد الفرص، وتقسم المدينة إلى حارات، منها ما هو مسموح الوقوف فيه بشكل مجاني، وأماكن مأجورة، حيث تتواجد المطاعم، والمراكز التجارية، ومراكز الخدمات، وغيرها، ويختم عبود: حلول النقل اليوم يجب أن تكون متكاملة، وتحديث النقل العام وتطويره يمكن أن يكون له الدور الأبرز في حل هذه المشكلة.
سلسلة متكاملة
يؤكد الدكتور سلمان محمود، عميد كلية الهندسة المعمارية في دمشق، أن شوارع مدينة دمشق في الأساس غير مهيأة لعدد كبير من السيارات، وكانت لدى محافظة دمشق خيارات سابقة كثيرة في الثمانينيات كإنشاء مترو تحت الأرض، مروراً من السومرية إلى حرستا، مع وجود شركات روسية مستعدة لتنفيذه، ولكن تأخر تنفيذ المشروع تخوفاً من الأعباء الاقتصادية، وهذا الأمر كان من شأنه إيجاد حلول لأزمة النقل، واليوم نجد أن أزمة النقل تتفاقم، وهناك مشكلة حقيقية في عدد السيارات الموجودة نتيجة الأزمة مقابل قلة في المواقف، والمرائب الطابقية، والمعروف أن المرائب في المدن الكبيرة والمتقدمة تكون موزعة في أطراف المدن، بحيث تصطف السيارات فيها، ويستخدم أصحابها المواصلات العادية، وهذا الأمر لم ينجح لدينا مطلقاً لاعتبارات كثيرة عندما حاولوا تنفيذه في مواقف كالسومرية، وغيرها، وبالتالي لابد من وجود مرائب طابقية ضمن المدينة، والجدير ذكره أن هناك مرائب في بعض المدن تصل لعشرة طوابق بمساحات كبيرة خالية من الجدران، ومزودة بمصاعد هيدروليكية، علماً أنه في حسابات الأبنية الخدمية في المدينة لا تحسب الكلف، فالخدمات الطرقية تقدمها الدولة للناس دون التفكير في الصعوبة الإنشائية، لكن المشكلة في عدم توفر مساحات أو أراض في مدينة دمشق، فمن المهم اليوم العمل على إنشاء مثل هذه المواقف دون النظر إليها كحل نهائي أو وحيد لمشكلة المواصلات، حيث يعتقد الدكتور سلمان أن المرائب لوحدها مهما كانت سعاتها لن تشكّل الحل الأمثل، فهناك مجموعة أفكار تأتي بشكل متكامل كالمواقف التبادلية الفعلية، وتحييد بعض الطرقات عن قلب المدينة، والتفكير بتطوير أسلوب النقل الداخلي، والمواقف المأجورة كذلك لن تحل مشكلة، وهي باب للفساد، فمشكلة المواصلات في مدينة دمشق معقدة، وتتحمّل العديد من الأفكار، ولكن باعتقادي أن إعادة إحياء مشروع المترو مجدداً من شأنه أن يعمل على حل هذه المشكلة بشكل كامل.
محمد محمود