الخميس 2020-04-09 12:12:06 **المرصد**
كيف يعيش أثرياء سورية ؟

سيريانديز
غيَّرت الحرب في سوريا كلَّ شيء، باستثناءات قليلة، ومنها إنفاق الأغنياء، وطرائق معيشتهم اليومية. حافظت هذه الطبقة على طقوس إنفاقها، ولم تحوِّل عاداتها الاستهلاكية الترفيهية، كما فعلت غالبية الشعب السوري مرغمةً. وإذ تتفق الإحصاءات الرسمية والأممية والبحثية المتعددة على أن نحو 83% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، فهل هذا يعني أن النسبة الباقية هي من الطبقة الغنية، والتي تعيش في عوالم مغايرة تماماً للغالبية الساحقة من السوريين؟ وإذ لم تتوقف الحياة الباذخة بسوريا، وأن الفوارق الطبقية في المجتمع السوري باتت فاضحة حاولت (صُوَر) في هذا التحقيق، التعرف على العوالم الشخصية التي يعيشها أفراد من الطبقة الغنية التي فضّلت البقاء في سوريا، تلك العوالم المتعلقة بالحياة الاجتماعية، والأفراح والحفلات. ووجدت أن هذه الطبقة لم تغير نمط حياتها اليومي، بل ربما زادت في الإنفاق عليه.

 

نادي الأغنياء
يصعب في سوريا تقدير عدد الأغنياء، إذ إن إخفاء الثروة جزء متأصل من السلوك العام، ورغم دخول العديد من السوريين في قوائم التصنيف العالمي المتعلقة بالأثرياء، التي تعتمد مبلغ مليار دولار كمعيار للتصنيف، تبقى ثروات السوريين مخبأة. إذ لا يتجرّأ كثيرون على القول: ماذا يملكون؟ تخوّفاً من الأنظمة الضريبية، والحسد بالوقت عينه. و في ظل غياب مطلق للطبقة الوسطى، تصبح نسبة 17% المتبقية من المجتمع السوري غنية، مع اختلاف حجم هذا الثراء، وانقسام هذه الطبقة إلى الأغنياء التقليديين، وانضمام الأغنياء الجدد وعدد كبير من المسؤولين الحكوميين، والحزبيين إلى نادي الأغنياء السوري. ويتفاخر المنتمون إلى الطبقة المخملية في أحاديثهم اليومية بنوعية طعامهم ولباسهم وسهراتهم ورحلاتهم وتكلفتها، كما أن أفراد هذا النادي لم يتخلوا عن مسؤولياتهم تجاه أنفسهم، حفلات ورفاهية غير مسبوقة.  

 
الطبقة المخملية
الحرب مرت من هنا، أي من تلك الأحياء التي يقطنها الأثرياء، لكن مرورها البشع لم يك كما فعلت ببقية الأحياء الأخرى على أطراف المدن، والقرى والبلدات، ظلت مراكز المدن حيث يقطن هؤلاء شبه آمنة، دمشق أنموذجاً. صحيح أن المزارع والفلل التي كانت تمتلكها تلك الطبقة خارج المدن تدمرت، لكن مظاهر الحياة الاعتيادية لهذه الطبقة ظلت كما هي، إنفاق عال، غالباً ما يكون بالقطع الأجنبي، يتناسب مع دخولها وحجم أعمالها المتزايد. وليس من المبالغة القول إن أثرياء سوريا لم يتأثروا بالحرب بالنسبة لمستوى معيشتهم، وأن ما كانوا ينفقونه على رفاهيتهم، قبل 2011، ربما زاد أكثر حالياَ. إذ لم يزر شظف العيش من تبقى من أغنياء يعيشون في سوريا، هؤلاء بعيدون كل البعد عن الأزمات المعيشية التي تغلف حياة غالبية السوريين، لايقفون أمام مؤسسات السورية للتجارة، رافعين البطاقة الذكية من أجل الحصول على مخصصاتهم من الرز والسكر والزيت والشاي...الخ، هؤلاء لا تهمهم أسعار المواد المتعلقة بمتطلبات يومهم. بل أن الحرب بحد ذاتها خلقت لهم فرصة جديدة، استطاعوا من خلالها استعادة موقعهم التاريخي بوجود طبقة مخملية تمتلك ما لا تستطيع الطبقات المجتمعية الأخرى امتلاكه.
يقول أحد أثرياء دمشق لـ (صُوَر): ليس ذنبنا أننا أغنياء، بل ذنب الآخرين الذين رضوا أن يكونوا على هامش المجتمع، اكتفوا بما تقدمه الحكومة من رواتب مقابل لا عمل. مؤكداً أن فئة قليلة أثرت بأعمال غير مشروعة، لكن ليس من حق أحد اتهام أثرياء سوريا بأنهم يعيشون على حساب الفقراء، لأن الثراء السوري ليس وليد اللحظة أو الحرب الحالية، هو حالة قديمة ومستمرة كبقية المجتمعات. ويشير الثري إلى ما يسميه "مفارقة صادمة"، بأن عائلات فقيرة تعتاش بفضل بعض الجمعيات الخيرية والمساعدات، تهاجم الأغنياء، دون أن تدرك أن الأغنياء هم من يتبرعون، أو يساهمون في هذه الجمعيات.

 الجزء الفارغ
قاع المدينة في سوريا مخيف جداً، حالة موحشة يعيشها أبناء هذا المجتمع، فقر وعجز واحباط، مقابل قلة أخرى تعيش (فوق) تمتلك الكثير، تنفق براحتها، ولا توجد لديها مشكلات يومية معيشية، إذ أن مشكلات هذه الطبقة مختلفة، تتعلق بطرق مراكمة المزيد من الثروات.  ويشرح الثري الدمشقي الذي فضل عدم ذكر اسمه: يروننا نلبس الثياب الفاخرة، ونركب السيارات الفارهة، ونسكن في بيوت مختلفة عن بيوتهم، هذا هو الجزء الفارغ من الكأس، لننظر إلى الجزء الآخر، ساعات العمل الطويلة وحجم المجازفة في عالم الأعمال، ولنتساءل لماذا عندما ينتقل فقير إلى نادي الأغنياء يمارس طقوس حياتهم؟ ورداً على سؤال عن حجم الإنفاق لأسرة غنية يوضح الثري الدمشقي: لم يتغير مصروفنا، وما كنا ننفقه قبل الحرب، محسوباً على سعر الصرف الجديد، لا زلنا ننفقه الآن. ويضيف:  لم تشعر أسرنا بتغيّر شديد في الإنفاق، كما أن انخفاض قمية الليرة السورية، وارتفاع الأسعار لم يؤثر علينا، وأن تلبية احتياجاتنا باق كما هو، ونحن نعمل ولا نحصل على إعانات مجتمعية أو مساعدات خيرية.

طقوس الرفاهية
ثمة "كونتونات" صنعتها الطبقة المخملية لنفسها، وبعد أن حاولت سنوات الانفتاح الاقتصادي إعادة تركيب طبقات المجتمع السوري، وحدث تداخل قوي بين أغنيائه وطبقاته الأخرى، أتت كوارث الحرب لتعيد فرز المجتمع طبقياً من جديد، انزلق كثيرون إلى القاع، وطفا على السطح القلة من الميسورين. هي ليست نتيجة الحرب الممتدة منذ 2011 فقط، بل لجملة من العوامل السياسية والاقتصادية المرافقة.

 تحولت يعفور، 24 كيلو متراً غربي دمشق، إلى مدينة الحفلات خارج العاصمة، غدت بديلاً لبيروت، بعوالم أخرى، تختلف عن العالم الحقيقي الذي يعيشه فقراء سوريا. وفيها يمكن الخلوص إلى نتيجة أن الحرب لم تتمكن من إيقاف صخب حياة القلة من السوريين، والذين لم تؤثر هذه الحرب على دخلهم وإنفاقهم. هناك في يعفور حياة مختلفة ضمن صالات مرتفعة الكلفة، تُمَّارس فيها طقوس الرفاهية بكل صنوفها، التي هي جزء من الطقوس الاجتماعية، والعادات الاستهلاكية لتلك الشريحة التي تنظم هذه الحفلات.

 وتنتشر صور مسربة من تلك الحفلات الباذخة، التي تظهر حجم الإنفاق المرتفع، وحالة البذخ الهائلة، ومشاهد تصويرية أقرب إلى الإنتاج السينمائي، الذي يوثق تسابقاً محموماً بين العائلات الثرية على من يقدم الأفضل بصور أسطورية ومشاهد خيالية. هنا التكلفة ليست مهمة، هي جزء بسيط وثانوي بالنسبة للباحثين عن متعة الانفاق الاستهلاكي الذي يتناسب مع مقدار الثروات المتراكمة. ما يهم تلك الشريحة التي تؤوم يعفور هو ما الجديد الذي ستقدمه في حفلاتها؟ لجهة الحضور المختلف لكنه المنتمي حتماً إلى هذه الطبقة، ولجهة التقنيات الحديثة في التصوير، فضلاً عن الجديد في اللباس، وتنظيم الحفلات..الخ.

 من إحدى الحفلات التي تقيمها العائلات الثرية في يعفور
يعلِّق (سعد) أحد رواد تلك الحفلات: "وما المانع بذلك؟ هل يجب أن نذهب إلى بيروت؟" كانت بيروت مقصداً لهؤلاء، وجنت العاصمة اللبنانية ملايين الدولارات من إنفاقهم، فحفلة زفاف لابنة رجل أعمال سوري على ثري دمشقي كلفتها حسب وسائل الإعلام نحو مليون دولار. لاحقاً أقام نجل رجل الأعمال حفلة عرس باللاذقية بكلفة تقارب 2 مليون دولار، وفقاً لما تناقلته وسائل إعلام وتواصل اجتماعي. ويرى الشاب الثلاثيني: أن هذه قضية ليست للنقاش، لأنها تدخل ضمن الحريات الشخصية. ويؤكد "نحن لا نزعج أحداً، نتصرف وفق تقاليدنا المعتادة".

 استثمار موجه
وبالسياق ذاته، افتتح مطعم (أم شريف) اللبناني فرعاً له في فورسيزنز دمشق، في تشرين الثاني الماضي، والذي تؤمه العائلات الغنية. ويبدأ سعر الوجبة الواحدة في المطعم الذي يضم 200 كرسي من 60 دولاراً، ويشهد إقبالاً واسعاً عليه. إنه الاستثمار المخصص لشريحة محددة، تبحث عن رفاهيتها بأي ثمن، وتحصل عليه بكل بساطة. فيما شوهدت سيارات فارهة بالمدن السورية، ثمنها يقارب عتبة المليون دولار، وفي المزادات الحكومية لبيع السيارات، بيعت سيارات بمبالغ طائلة، بقيمة مئات ملايين الليرات. هذا مشهد يعبر عن نمط حياة فئة معينة بالمجتمع، لم تغيّر عاداتها الاستهلاكية.

 مطاعم دمشق
من المشاهد المتناقضة، أنه مع ارتفاع مؤشر الفقر وازدياد عدد الفقراء في سوريا، ثمة انفاق استهلاكي مرتفع لشريحة الأغنياء. ففي احتفالات عيد الميلاد ورأس السنة المنصرمين، كانت مطاعم دمشق محجوزة كلها، ولا توجد أماكن إضافية لقادم جديد تأخر في الحجز. إذ أغلقت معظم مطاعم الخمس النجوم حجوزات حفلة رأس السنة قبل نحو شهر من انطلاقها، ووفقاً لمصادر متقاطعة أكدت ل (صُوَر) أن قِلَّة من هذه المطاعم تعاقدت مع نجوم الغناء بأسعار مرتفعة، بينما فضَّلت غالبية هذه المطاعم أسماء لامعة لكن بأجور معقولة. ومع ذلك حُجزت كل الكراسي بشكل سريع، وتفاوتت أسعار البطاقات بين فندق وآخر وفقاً للبرنامج الفني المرافق، ووسطياً وصل سعرها إلى ما يعادل راتب شهر لموظف حكومي. إذ بلغ سعرها في فندق (الداما روز) الذي تعود ملكيته لوزارة السياحة  33 ألف ليرة (الدولار ب 900 ليرة آنذاك) للشخص الواحد، وفي الشيراتون 60 ألفاً، وتراوحت بين 85 إلى 100 ألف في الفورسيزونز. أما مطاعم أتوستراد المزة حيث يقطن فيه طبقة الأغنياء والمسؤولين، فقد وصل سعر التذكرة في مطعم ديونز المزة  إلى 45 ألف ليرة. وتراوحت سعر البطاقة في مطاعم الربوة بين 18 إلى 21 ألف ليرة. وسجلت مطاعم دمشق القديمة لا سيما في باب توما ارتفاعاً ملحوظاً في أسعار البطاقات، وتجاوز سعر التذكرة الواحدة 30 ألفاً، وهي المطاعم التي ترتادها عادة الطبقة الوسطى.

 
لبن العصفور
لم تنقطع السلع التي يستهلكها الأثرياء عادة، وهي مستوردة، كأنواع الجبنة والمشروبات الروحية وأصناف معينة من اللحوم الحمراء، والأسماك فضلاً عن الألبسة. ويتفاخر التجار أنهم ساهموا بشكل فعلي في عدم انقطاع أي من السلع والمنتجات عن الأسواق المحلية رغم ظروف الحرب والحصار الاقتصادي. بل في مؤشر لافت، وأثار العديد من الأسئلة، سماح حكومة دمشق باستيراد المكسرات والمشروبات الروحية، وطعام القطط والكلاب في أواخر 2016، قبل أن تتراجع عن هذا القرار تحت ضغط الاستياء الشعبي من توجهات الحكومة، في بلد يعاني ويلات الحرب والفقر. إلا أن طريق التهريب ظل مفتوحاً أمام تلبية احتياجات تلك الشريحة، فالسيارات العامة العاملة بنقل الركاب بين بيروت ودمشق، يتعلق جزء من عملها بتأمين متطلبات هذه الشريحة، وتوفيرها بشكل يومي، بغض النظر عن قرارات السماح أو المنع من الاستيراد، وتكلفتها الباهظة التي تسدد بالدولار. إذ  تندرج هذه السلع ضمن سلة احتياجات شريحة الأغنياء، وتعد جزء من "برستيجها" الاجتماعي العام.

التعامل بالقطع الأجنبي
لماذا لم يتغير إنفاق هذه الطبقة؟ يجيب على ذلك الباحث الاقتصادي سمير الحلبي بالقول: لأن دخل هذه الطبقة لم ينخفض، وحجم أعمالها لم يتراجع بالشكل المعلن عنه، بدليل ما نراه من حياة رفاهية وبذخ كبيرين في الشوارع فضلاً عن الحفلات والنشاطات الخاصة. ويضيف الحلبي : هؤلاء يتعاملون بالقطع الأجنبي، بأعمالهم وإنفاقهم، ومع كل ارتفاع بسعر الصرف، وانخفاض في قيمة الليرة، لا يتأثر هؤلاء، وهذه التقلبات لا تصل إليهم فيما يتعلق بنفقات حياتهم اليومية، هذه الأساسيات لايتخلى عنها مجتمع الميسورين.

 حرية الإنفاق
ثمة علاقة وطيدة بين الغنى والإنفاق، هما مترابطان عضوياً، وارتفاع أحدهما يوازيه ارتفاع بنسب معينة للآخر. وإن كانت القوانين في العالم كله لا تشترط على شخص ما بحدود معينة من الإنفاق، إلا أن المسؤوليات الاجتماعية والأخلاقية تحتِّم على الأثرياء التزاماً تجاه الفقراء، أو في الحد الأدنى عدم استفزازهم. لتبقى أفكار من قبيل إعادة توزيع الثروة مجرد شعار وهمي.

ٍ جميع الحقوق محفوظة لموقع syriandays - syrianews - سيريانديز- أخبار سورية © 2024